ثمة سؤال ممكن، فات المراسلين أن يوجهوه إلى وزير الإعلام اللبناني الجديد، خلال استقباله. بما أنه يأتي من التلفزيون إلى الدولة، وليس العكس، كما يحدث عادةً، كان يمكن أن يُسأل: ما هي الدولة؟ الدولة في لبنان طبعاً. وكانت إجابة الوزير، المعروف عنه "دبلوماسيته" الشديدة، وقدرته على إعلان آرائه من دون إحراج، لتكون مثيرةً للاهتمام بحق. وكانت الإجابة، في السياق نفسه، مفيدةً ليفهم العاديون، تصورات الوزير الجديد، عن المكان الذي جاء إليه، ومقارنتها بتصورات الوزراء الآخرين. لكنهم لسوء الحظ لم يطرحوا هذا السؤال. وجدوا أنفسهم أمام إجابات أكثر غرابة، مثل الدعوة إلى "تقنين" الظهور على الشاشات، من شخص يأتي من الشاشة. وجدوا نفسهم أمام دعوة صريحة للرقابة وربما خاب أملهم قليلاً. فهم إعلاميون في النهاية.
ليس جورج قرداحي مثل مقدّمي البرامج السياسية التقليديين في لبنان. بنى شعبيته المحلية والعربية أيضاً، في مكان آخر. يعرفه الجمهور كمحاور رصين في "من سيربح المليون"، أو كوسيط لبق لحل خصومة قديمة، على قاعدة استعراض عواطف شخصية مشحونة أمام الجمهور، في برنامج "المسامح كريم". حتى الآن، ما زالت هذه النوعية من البرامج تحظى بشعبية نسبية في لبنان، وفي العالم العربي عموماً، وكان دور قرداحي المركزي فيها أساسياً في بناء صورته. من هذه الصورة، جاء إلى السياسة، محملاً بمواقفه السياسية الثقيلة نفسها. مواقف أكبر من وزارة الإعلام في لبنان، التي تعاني من دور ملتبس بحد ذاتها، وقد صار أكثر التباساً من الناحية التقنية، في ظل وجود مؤسسات صحافية كبيرة ومستقلة عن الدولة، وجمهور صار أكبر منها بكثير، ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي، وفق شروط واعتبارات جديدة.
يحبّ قرداحي الحوار. رجل هادئ، كما يعرفه المشاهدون العرب على شاشة التلفزيون. يميل إلى الحوار، وإلى بقاء الأمور على ما هي عليه. لا يعتقد أن التغيير ضروري في سورية، وأن الناس هناك كان بإمكانهم القبول بكل ما حلّ بهم. وقد أعلن مواقف "سياسية" زايد فيها على السياسيين أنفسهم، إلى حد طالب فيه بمنح رئيس النظام لقب "رجل العام". وليس جديداً أيضاً، أنه في مصر، تعاطف مع "شخص" حسني مبارك، واستعرض ما اعتبره مزايا وطنية فيه. تعاطف أيضاً نسبياً، مع ضحايا غزوة الجمل في ميدان رابعة، لكنه تعاطف "نسبي" فعلاً، يبقى مشروطاً بمجموعة اعتبارات سياسية، يصل فيها المقام الإنساني إلى درجة أقل من السياسة، إذا طبقنا المعايير الإنسانية ذاتها لقراءة مواقف الوزير "الجيوسياسية" في سورية مثلاً. انطلاقاً من مواقفه السابقة، لم يكن مستغرباً أن يكون قرداحي وزيراً في إحدى الحكومات اللبنانية. لكن الصورة السياسية لقرداحي لبنانياً تجاوزت صورته الإعلامية. مثلاً كان طبيعياً أن يكون وزيراً للخارجية في حكومة "نظام لبناني"، وليس وزيراً للإعلام. إلا أن خيبات الأمل في لبنان كثيرة إلى درجة أن أحداً لن ينتبه لخيبة طفيفة من هذا الحجم.
تبحث الوزارة عن محاولة وصاية على الإعلام اللبناني
في الوزارة، يشبه قرداحي نفسه في برامجه التلفزيونية التي كانت سبباً لشهرته. ليست هناك مفاجآت. يعمل دائماً على "تدوير الزوايا"، مهما بلغت درجة الضيق. قبل أسبوعين، استقبل وفداً من نقابة الاعلام المرئي والمسموع. وكان يمكن أن تكون تلك الزيارة أقرب إلى زيارة "شخصية"، يتبادل فيها الزائرون الآراء. يفضّل الوزير والإعلاميون التابعون لمؤسسات السُلطة التسويات، وبقاء الأمور على حالها، تحت مجموعات مسميات جاهزة، مثل "الاستقرار" و"التنظيم". يمكن اعتبار قرداحي، في موقعه، وسيطاً ممتازاً كما كان في التلفزيون. لكنه هذه المرة في جانب الدولة لقيادة العلاقة مع المجتمع، وليس في جانب المجتمع الذي يواجه الدولة. فالدولة، ليست مجرد جهاز نهائي، يعمل وفق سلسلة علاقات بين الشعب والإقليم تحت مسمى السيادة، وإن كان هذا التعريف يصلح لأن يكون مدخلاً لفهم الدولة. العلاقة بين الدولة والمجتمع، تقوم على مجموعة مصالح، وعلاقات قوة، بين الأفراد والجماعات.
من هنا، يتجدد النقاش دائماً حول جدوى وجود وزارة إعلام، بصرف النظر عن هوية الوزير نفسه. فإلى جانب قرداحي نفسه، يوجد إعلاميَّان اثنان في الحكومة الجديدة، هما وزير الزراعة عباس الحاج حسن (عمل مراسلاً لقناة فرانس 24 في باريس) وعميد كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية السابق جورج كلاس الذي صار وزيراً للشباب والرياضة. عندما نتحدث عن "وزارة الإعلام" لا نتحدث عن الوزير بشخصه بالضرورة. تهيمن النخبة الحاكمة على كل شيء، وهذا ليس خافياً على أحد. الإعلام بالنسبة لهذه النخبة، مثل الحصص في المستشفيات، وفي الجامعات، وفي جميع المؤسسات البرجوازية. ليس جديداً، أن يكون الإعلام في لبنان على علاقة بالسُلطة، وأن تقوم هذه العلاقة على شكل من أشكال التكامل والتنسيق، بدلاً من الدور الرقابي. وإن كانت الزيارة بحد ذاتها، ليست دليلاً إلى هيمنة "سُلطة" على الإعلام، فإنها تبقى مدخلاً مناسباً لتفسير هذه العلاقة التي تحاول أن تأخذ شكلاً لبنانياً تستمد منه "طبيعيتها"، مع أن وجود وزارة إعلام، ليس أمراً طبيعياً. علاقة تقوم على "وصاية" الوزارة، التي تتخذ طابعاً أبوياً، على الإعلام والإعلاميين، أو "محاولة" وصاية تبحث عن حصة أكبر في منظومة علاقة قوة، بما أن جزءاً يسيراً من الإعلام اللبناني يستطيع تجاوز هيكل الدولة وفكرتها وميثاقها وكل ما يمتّ إليها بصلة، بسبب هيمنة التركيبة الطائفية على الدولة نفسها.
"التنظيم" ليس سوى محاولة دائمة لإبقاء كل شيء على ما هو عليه
ما هو مؤكد، أن الوزير الجديد ليس شخصاً يتحمس للتغيير. من خلال مواقفه الأولى كوزير للإعلام حصراً، أكد قرداحي على "حرية التعبير"، وحاول أن يتفادى النقاش من أساسه، عن جدوى وجود وزارة، بإشارته إلى أن أهميتها تكمن في "تنظيم العمل الإعلامي"، لكي يصار إلى التمييز بين الحرية وبين ما وصفه بالتجريح بالأشخاص. وهو تالياً، يعيد النقاش إلى ما كان عليه إلى قبل خمسين عاماً تقريباً، حين بدأ العالم يسأل بجدية عن العلاقة بين الإعلام والسُلطة، تزامناً مع انتفاضة 1968 في فرنسا. في ذلك الوقت، اكتشف الفرنسيون، أنهم أمام نوعين من الصحافيين. النوع الذي ينقل ما يحدث في "الحي اللاتيني"، ويتنقلون بين الحواجز ويتابعون اشتباكات المتظاهرين مع رجال الشرطة، والنوع الذي يتحدث عن "هدوء تام" في باريس. وربما يكون هذا هو "التنظيم"، الذي تمارسه معظم المؤسسات الإعلامية اللبنانية، بوصفها أدوات دعائية تقوم على الولاء الطائفي. هذا التنظيم حدث على أفضل نحو، بمشاركة وزارت الإعلام، التي فضّلت بصورة متواصلة بقاء الأمور على ما هي عليه. وبمراجعة الإعلام الرسمي، يتضح أن انتفاضة 17 تشرين الأول لم تحدث، وأن المتظاهرين لم يُقتلوا في طرابلس أو في الضاحية أو في أي مكان آخر ذات يوم، ويتضح أيضاً أن الإعلام "غير الرسمي"، لا ينتبه لوجود وزارة، أو لوجود اعلام، ويعمل وفق معايير أخرى، يمكننا التأكيد بعينين مغمضتين أنها غير إعلامية. يكفي متابعة تغطية أحداث عين الرمانة الأخيرة (الاشتباكات في الطيونة/عدلية يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي) - وليس أحداث عين الرمانة في 1975 - على شاشة أكثر من مؤسسة، لنتأكد أن "التنظيم" الذي تتحدث عنه وزارة الإعلام، ليس سوى محاولة دائمة... لإبقاء كل شيء على ما هو عليه!