في بداية تسعينيات القرن الـ20، غادر الممثل والمخرج جمال أمين العراق مُضطرّاً، بعد مشاركته في أعمالٍ عراقية عدّة، أبرزها ممثّلاً في فيلم "بيوت في ذلك الزقاق" (1977) لقاسم حول. تلفزيونياً، عمل في مسلسلات عدّة، منها "الذئب وعيون المدينة" (1980) لإبراهيم عبد الجليل وعمانوئيل رسام. بالإضافة الى أعمال مسرحية، لكنّه بقي مخلصاً لمشروعه السينمائي، فقدّم سلسلة أفلام قصيرة أنجزها خارج العراق: "صائد الضوء" و"لقالق" و"ياسين يغني" و"فيروس" و"نباح" وغيرها، تناولت هموم المهاجرين في أوطانهم البديلة، قبل مشاركته التمثيلية في "وراء الباب" (2020) لعدي مانع.
عن تجربته الممتدة نحو 30 عاماً، حاورت "العربي الجديد" جمال أمين.
(*) لك تاريخ في التلفزيون والسينما في العراق، قبل مغادرتك إلى دول الاغتراب، خاصة في التمثيل. ما هو أثر ذلك عليك؟
في فترة الدراسة، كان حظّي كبيراً في اختيار قاسم حول لي كأحد ممثلي فيلمه "بيوت في ذلك الزقاق". بعد ذلك، اختارني كارلو هارتيون في "اللوحة"، ثم "تحت سماء واحدة" لمنذر جميل. بعدها، اتّجهت إلى التلفزيون ممثّلاً في مسلسل "الذئب وعيون المدينة"، مع الراحل إبراهيم عبد الجليل.
لكنّ هذه الأحلام والطموحات في أنْ أصبح نجماً هوت مع بداية الحرب العراقة الإيرانية، وذهابي إلى الكويت. هناك عملتُ مخرجاً مع شركات أساسية، كـ"النورس" و"البيت الإعلامي"، حيث صقلت تجربتي مخرجاً، بفضل عملي في عشرات الأفلام الوثائقية والدراما الموجّهة بشكل رسائل من شركات ومؤسّسات. بعد الكويت، عدت إلى العراق، وعملت مخرجاً في "تلفزيون بغداد"، وأنجزتُ نحو 100 ساعة تلفزيونية.
(*) أخرجتَ أفلاماً قصيرة عدّة. ألم تفكّر في إخراج فيلم روائي طويل قريباً؟ ما الذي يمنعك من ذلك؟
أخرجتُ أفلاماً وثائقية طويلة وأخرى روائية قصيرة مع منتجين دنماركيين، فأنا أحمل الجنسية الدنماركية، وأعيش بين لندن والدنمارك. مؤسّسات عدّة أنتجت أفلاماً روائية قصيرة ووثائقية، بناء على ما يتوفّر من مبالغ لديها، فإنتاج أفلامٍ قصيرة مُكلفٌ أيضاً، فما بالك بإنتاج فيلم روائي طويل. لديّ سيناريوهات أفلامٍ روائية طويلة، يتناول أغلبها موضوعي الهجرة والمهاجرين، وتحتاج إلى ميزانيات كبيرة لإنتاجها، لم تتوفّر لدى هذه الشركات/ المؤسّسات فهي صغيرة. كما أنّ سيناريوهات الأفلام لا تثير المُنتج الأوروبي، لأنّها تعالج قضايا غير تجارية.
هناك مخرجون من دول مختلفة يبحثون عن تمويل لإنتاج أفلامهم، نراهم يعانون أيضاً المحنة نفسها التي أعانيها. أتمنّى إنتاج فيلمي، الذي كتبته منذ نحو 5 أعوام، "الشيوعي الأخير" (عنوان مؤقّت)، لأنّ كل عناصر تنفيذه متوفّرة، باستثناء المال، وهذا مهمّ جداً.
(*) بدأتَ فنياً في التمثيل، ثم انتقلت الى الإخراج. أين تجد نفسك: أمام الكاميرا أم وراءها؟
بدأتُ ممثلاً في عمرٍ صغير جداً، مع فرقة النشاط المدرسي في وزارة التربية، حيث عملت مع كبار الفنانين، كوجدي العاني وقاسم صبحي. بعدها، انتقلتُ إلى المعهد للدراسة، وكانت فرصة كبيرة لي كي أعمل في "بيوت في ذلك الزقاق". استمررت بذلك طيلة فترة دراستي السينما، حيث تخصّصت في الإخراج السينمائي، وأصبحتُ مخرجاً في الكويت، بفضل فيصل الياسري. حصلتُ على فرص كثيرة في التمثيل، فشاركتُ في 10 أفلام سينمائية، بين العراق والدنمارك وتركيا وبريطانيا.
التجربة لذيذة جداً بالنسبة إليّ، أنْ أقف أمام الكاميرا ممثلاً. لكنّي ممثلٌ هاوٍ، ومخرج محترف. عملت في مؤسّسات فنية كثيرة، في العراق والكويت والأردن والدنمارك وبريطانيا. التمثيل لي عشق، والإخراج هيام. وكما ترى، أعيش الهيام والعشق مع السينما.
جمال أمين: أنا منفيٌّ ومسافر ومهاجر ولاجئ وسائح في رحاب الأرض منذ 36 عاماً. عشت حاملاً هذه الصفات أكثر من حملي صفة مواطن. الغربة الجغرافية صعبة جداً، والأصعب منها الاغتراب
(*) ما الذي أضافه إليك المنفى؟ ما أثره على مسيرتك الفنية؟
أنا منفيٌّ ومسافر ومهاجر ولاجئ وسائح في رحاب الأرض منذ 36 عاماً. عشت حاملاً هذه الصفات أكثر من حملي صفة مواطن. الغربة الجغرافية صعبة جداً، والأصعب منها الاغتراب. نحن جيل مهزوم وهارب ومنفيّ، لا بإرادتنا بل لأسبابٍ معروفة. نحن "جيل الحطب"، الذي بنت الديكتاتوريات عروشها على أحلام أبنائه وأرواحهم. الغربة تجعل الإنسان في حالة قلق وخوف دائم وعدم استقرار. من ناحية، جعلني المنفى إنساناً آخر، قويّاً ومتسلّحاً بالعزيمة والإرادة القوية؛ ومن ناحية أخرى، جعلني منكسراً من الداخل، وغريبَ الروح، ومُهمّشاً من الآخر ومسكيناً بالنسبة إليه، وبطلاً من ورق في بعض قصص اللاجئين.
هذه الظروف والمشاعر جعلتني أذوب في عالم المهمّشين اللاجئين، فأدافع عنهم. للغربة ثمن كبير، دفعنا نحن الآباء القسط الأول من ثمنه، وسيدفع أبناؤنا الأقساط الباقية، لأعوامٍ وأجيال كثيرة.
الإنتاج في أوروبا ليس ريعياً، بل مدروساً ومحسوباً. كلّ دولار أميركي يُدفع يجب إرجاعه عشرات الدولارات. هناك قواعد إنتاجية تعتمد على أسماء لها سوق، أما نحن فنُمنح فرصٌ، ننجح فيها أحياناً، لكنها ليست قاعدة. يجب عليّ تقديم أفكارٍ تتلاءم مع شركات الإنتاج، وهذا صعب، لأنّ الذين يعملون في هذا المجال يُعدّون بالآلاف، والفرص صعبة جداً. نبقى نحن أصحاب السينما المستقلة ننتظر هباتٍ وعطايا من مهرجانات ومؤسّسات تمنح جزءاً يسيراً من ميزانية الإنتاج، نحو 15 ألف دولار أميركي، على سبيل التقدير. بعدها، نبدأ البحث عن مموّل ثانٍ وثالث، وغيرهما.
أول حلّ لمشكلة الإنتاج السينمائي في العراق إبعاد من يحمل لقب دكتور في السينما عن لجان معالجة المشكلة. يجب أخذ رأي من يعمل في السينما. يجب الاعتراف بأنّ السينما صناعة، ويجب منح صانع الفيلم قرضاً لإنتاج فيلمه
في هذا الجانب من الإنتاج، هناك أيضاً آلاف الشباب الطامحين إلى تحقيق الفيلم الأول أو الثاني. أوروبا ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، وحتّى ثمانينياته، تختلف عن أوروبا الآن. كان هناك منتجون كثر أصحاب ضمير، ولهم مواقف إنسانية. الآن، الموضوع كارثيّ، إذا علمنا أنّ السينما تُسوِّق للفكر الرأسمالي، وتسعى إلى إسقاط شعوب كاملة ومجتمعات كاملة. أصبحوا يزوّرون حقائق، بشكل سافر. أمامنا تجربة اسمها "الموصل" (إخراج ماثيو مايكل كارناهان، إنتاج 2019، تعرضه منصّة "نتفليكس" منذ 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 ـ المحرّر)، وهذا بحجة الحرية. العراق في هذه المعادلات خارج التغطية، وغير مشمول بالرعاية، بل بفتاتٍ منها.
(*) كيف ترى المشهد السينمائي العراقي الآن؟
أول حلّ لمشكلة الإنتاج السينمائي في العراق إبعاد من يحمل لقب دكتور في السينما عن لجان معالجة المشكلة، لأنّ مكان الدكتور في الجامعة والمعهد. يجب أخذ رأي من يعمل في السينما. يجب الاعتراف بأنّ السينما صناعة، ويجب منح صانع الفيلم قرضاً لإنتاج فيلمه. يجب الابتعاد عن "دائرة السينما والمسرح" العراقية، لأنّها محطِّمة لأي فعل سينمائي. هناك أفكار كثيرة يُمكن التحدّث عنها، لكن "دكاترة" السينما لا يدعون إلى حلّها ولا للحديث عنها، لأنّهم يتصدّرون المشهد، ويُساهمون في تأزيم السينما العراقية.