في المشهد الأخير من فيلمه "تاكسي طهران"، الذي نال جائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم في مهرجان برلين السينمائي عام 2015، يمنح المخرج الإيراني المعارض جعفر بناهي، المشاهد لحظةً تأملية بارعة، لكشف الواقع الأمني والرقابي المفروض على المخرجين السينمائيين في ظل الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
تصور العدسة المثبتة في الركن الأمامي من السيارة، رجلين غريبين على دراجة نارية. أحدهما سيقترب من السيارة وينتشل الكاميرا من مكانها لينتهي الشريط مع جملة قالها هذا الرجل: "لا يوجد بطاقة ذاكرة"، ليجيب الآخر "لا بأس سنأخذها لاحقًا".
هنا مصير لا يشترط التشكيك. لغة سردية فيها مناورة ذكية لرجل يقرأ مصيره وهو يصور فيلمه. اليوم هو ملقىً خلف القضبان، مثلما حصل قبل نحو عشرة أعوام. التهمة هي: "التحريض على الشغب والاضطرابات". لا غرابة في ممارسة كهذه حين نعلم العقلية القمعية لسلطة الملالي. سيقضي بناهي ستة أعوام كانت مؤجلة منذ أحداث "الثورة الخضراء" (2009). يرافقه كل من المخرجَيْن محمد رسول أف ومصطفى آل أحمد.
جهود دولية ورسائل شجب وتنديد من مهرجانات ومحافل دولية وعالمية ووسائل إعلام ومنظمات حقوقية تطالب حاليًا بالإفراج عن بناهي وزملائه. نحن، في الجانب الآخر من السياسة، نحاول أن نفرج عن أعماله ونتأمل معه، ما كانت عدسته تنقله لنا خلال السنوات العشر الماضية، والتي وضعته السلطة، خلالها، تحت الإقامة الجبرية ومنعته من ممارسة المهنة لمدة عشرين عامًا. سنوات قدم خلالها بناهي مجموعة من الأفلام التي استطاعت الهروب من قبضة السلطة الإيرانية ومخابراتها إلى العالم، بطرق يمكن أن نصفها بـ"الإخراجية"، إذا ما نظرنا إلى القضيَّة. إذْ تصلح لمناوأة مبتكرة أمام سلطة حدودها مغلقة ومراوغات مخرج مشاكس حدوده واسعة.
عام 2008 قدم بناهي فيلمًا بعنوان "الدائرة". يحمل الفيلم رسائل غنية الوصف عن واقع مجموعة نساء يتكبدن خسائر روحية ونفسية بفعل الفكر الذكوري الجمعي في المجتمع الإيراني، وما تسوغه ممارسات مجتمع محكوم بأيديولوجيا مسمومة تجاه حريات الرأي والفكر والثقافة. هي حريات قوبلت بحركة "تطهيرية" (بحسب ما جاء على لسان الخميني بعد قيام الثورة الإسلامية عام 1979). فأمسى القطاع السينمائي في البلاد محكومًا بالرؤية العقائدية والسياسية للجمهورية الإسلامية.
التزام تجاه الفن والعدالة المجتمعية والمساواة يقوده بناهي حتى في سيارته
من خلال النظر لعنوان هذا الفيلم سنقع تلقائيًا تحت قبضة المفارقات والتناص اللذين أحاطا بحياة هذا المخرج المهنية. دائرة رسمتها أبعاد عدسته لتصور، كما كان يفترض، أحداثًا مأساوية تكابدها النسوة الإيرانيات في مجتمع منغلق راديكالي التوجه والعقيدة. تتحرك الكاميرا في الفيلم وفقًا للحدث دون أن تكون تمكينًا له. وكما يجري في سباقات الجري المشهورة، حيث يقطع العدّاء مسافة محددة ثم يسلم العصا لزميله القادم، تسلِم كل ممثلة نهاية قصتها لزميلتها اللاحقة لتبدأ قصة جديدة. وهكذا نتجول مع خمس قصص متنوعة تناول فيها بناهي قصص الإجهاض والدعارة والسلطة الأبوية والرقابة الأخلاقية الخانقة، إلى أن ينتهي الفيلم في مشهد لمجموعة نساء داخل إحدى الزنزانات. نهاية الفيلم هنا ليست إسقاطًا على ظرف بناهي الحالي. لكنها كما قلنا، ابتدأت بدائرة ثم توسعت لتسحل بناهي إلى داخلها. أي لتسحل قصة أخرى إلى جوار القصص التي كان يصورها.
منذ لحظة منعه عن العمل في السينما، وجد بناهي خطة بديلة. خطة ناجحة استطاع التسلل من خلالها إلى السينمات والمهرجانات العالمية. ليكون فيلمه التسجيلي الأول "هذا ليس فيلمًا" عام 2011 (أثناء الإقامة الجبرية)، مخطوطًا أولاً لنجاح عملية التسلل التي تذكرنا بفيلمه "أوفسايد" الذي صدر عام 2006. والذي يتناول فيه قصة فتيات مراهقات يحاولن الدخول إلى أحد الملاعب وهن متنكرات على هيئة رجال، لمشاهدة مباراة مصيرية بين البحرين وإيران. إلا أن بناهي لم يرتد زي التنكر هذه المرة. بل ظهر في فيلمه هذا يصور حياته اليومية داخل منزله الخاص، يقارع سلطة القمع بعدسته وأدواته البسيطة. يناور، كما عادته، لمكاشفة الواقع المظلم سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. يراهن دائمًا على كشف "الستائر المغلقة" (فيلمه الثاني بعد الحجر صدر عام 2013) وممارسات كم الأفواه وتجريد الحريات وخنق العقول الفنية التي تمارسها السلطة بحق مناهضيها.
التزام تجاه الفن والعدالة المجتمعية والمساواة يقوده بناهي حتى في سيارته. ينقل تفاصيل الشارع الإيراني. محادثات بسيطة بين الممثلين. أحداث في غاية العفوية والسلاسة. وإن كان ممنوعًا من السفر، فلا ضرر من ركوب سيارته والتجول في شوارع طهران. كل ما يلزم كاميرا مثبتة أمام مقعد السيارة الأمامي، ثم يدعي بأنه سائق "تاكسي". فنتابع معه واحدة من دوائره الخاصة في رسم الحدث. أسلوب كاميرا داخل الكاميرا واحدة من أبرز الأدوات التي نفذها في هذا العمل. اختزال القضايا الإنسانية بهذا الشكل وبهذا الأسلوب رفع من مصداقية الأحداث. الممثلون يبدون ظاهريًا ركابًا. لكنهم في الواقع أصوات تعبر عن شرائح مختلفة وطبقات متعددة لها قيمها وعاداتها وثقافتها. جولة طويلة على غرار فيلم "10" للمخرج الراحل عباس كيارستامي. نتعرف خلالها على مسارات حوارية ذكية. تعكس بجاحة بناهي في هجاء السلطة وحاجة نقدها. جولة شاملة ضمن دائرة واسعة تطرق فيها لقضايا المرأة والنساء الأرامل وحقوقهن في الإرث التي لا تجيزها السلطة الشرعية في الدولة.