في سيرة المخرج الإيراني جعفر بناهي، الذي أفرجت عنه السلطات بعد طول اعتقال، الكثير مما يجدر الوقوف عنده سينمائياً وفنياً، فذلك الرجل، بأكثر الأوصاف موضوعية، هو علامة فارقة حقيقية على خريطة السينما العالمية وليس فقط الإيرانية.
لكن ما يجدر التمعن فيه أيضاً في هذه اللحظة الراهنة هو القصد السياسي للعمل السينمائي، الذي كرسه بناهي برفقة مجموعة ليست قليلة من المخرجين، وهو الأمر الذي طالما أثار تململ وقلق السلطات الإيرانية.
لا ريب أن تلك المقولة التي تدّعي فصل الفن عن السياسية، التي تجد رواجاً اليوم أكثر فأكثر في مختلف أنحاء العالم، بما فيها المنطقة العربية، ليست سوى محض ادعاء كاذب ومضلل. يعلم ذلك جميع الفنانين والسينمائيين منهم على الأخص، فكل لقطة هي في جوهرها تصريح سياسي، وكل مشهد هو وسيلة تعبير عن موقف صانعه، وما سعي الديكتاتوريات الدؤوب إلى نزع دسم السياسة من الأعمال السينمائية سوى وسيلة لتسطيح الوعي وتضليل الرأي العام باستمرار.
عندما اعتقلت السلطات الإيرانية بناهي عام 2010، كان قد مضى على فوزه بإحدى أهم جوائز السينما في العالم حوالي 15 عاماً، نتحدث عن سعفة مهرجان كان السينمائي 1995 وعن فيلمه الأيقوني "البالون الأبيض". على مدى السنوات التالية، أنتج بناهي أفلاماً كثيرة حصدت جوائز مرموقة، مُنِعَ جلها في إيران، فيما صنفت عالمياً نماذجَ فنيةً رائدةً لمزج الفن بالنقد السياسي ببراعة.
تلك ربما هي أبرز نقاط قوة بناهي، في قدرته على النظر بتمعن في أحشاء إيران من الداخل، من مؤسسة الزواج إلى الأسواق والمدارس، وفي تمكنه من معالجة القضايا الاجتماعية بوصفها قضايا سياسية بالدرجة الأولى دون مواربة، ودون الغرق في فخ المباشرة والخطابية أيضاً.
لقد شكلت سينماه في توجهها هذا سردية معاكسة تماماً لتلك الصورة المعلبة التي حرصت السلطات على تصديرها إلى الداخل والخارج معاً، وتحدت بشجاعة ادعاءاتها التي تجهد لتفريغ أي حراك أو تململ شعبي من جوهره السياسي.
لقد ناور بناهي السلطات سنوات طويلة قبل سجنه، ناور قواعد الرقابة الصارمة، وحوّل مع مخرجين آخرين احتمالات اللعب على هوامش الرقيب إلى أسلوب فني ميّز حقاً الأفلام الإيرانية التي عبرت إلى العالمية بسرعة، فصار شرط الحجاب الذي تفرضه الرقابة، مثلاً، وسيلة لتصوير عسف السلطة الحاكمة ضد المرأة، وشرط غياب نقد الطبقة الحاكمة دليلاً على أحقية هذا النقد.
ومع كل فيلم إيراني جديد، أصبحت مهمة نقاد السينما البحث عن مكامن المتعة في الفيلم، عبر تفكيك مكامن الشعرية الخالصة من جهة، والبحث عن الخلطة السحرية التي أخفى خلفها المخرج موقفه ورأيه السياسي. من دون شك، برع جلّ المخرجين الإيرانيين في خلق هذا التوازن الصعب بين الطرفين، حتى صارت ما يعرف بأفلام "الموجة الإيرانية الجديدة" علامة فارقة على خريطة السينما وضيفاً شبه دائم على مهرجاناتها العالمية.
لكن إنتاج الأفلام ومناورة الرقابة ليسا بهذه البساطة في إيران، فالأثمان باهظة. لقد قاد إصرار بناهي الرجل إلى حافة الهاوية مرات عدة، فقد وضعه الاستمرار في الفعل السياسي السينمائي تحت الإقامة الجبرية لفترات طويلة، ثم في سجن إيفين سيئ الصيت، ثم أمام نظام قضائي منحه حكماً غير مسبوق صار مثار تندر عالمي: المنع من ممارسة السينما لعشرين عاماً!
رغم ذلك، وبكل ما تنطوي عليه مهنة الإخراج من فنون المراوغة، أنتج وأخرج بناهي بشجاعة، وبالتعاون مع رفاق شجعان أيضاً، خمسة أفلام "غير قانونية"، قدم في كل منها درساً حقيقياً في احتمالات وطرائق مناورة الرقابة الإيرانية، لا بل السخرية منها، حتى إن أحدها هُرِّبَ عبر الحدود، ليعرض في مهرجان، كان داخل كعكة عيد ميلاد!
ففي فيلمه "هذا ليس فيلماً" عام 2011، استثمر مكان إقامته الجبرية بصورة إبداعية ليحكي، مستخدماً كاميرا الموبايل، حكاية انتظاره الممل والطويل، ثم في فيلم "ستائر مغلقة" 2013، حوّل ظلام منزله الشاطئي إلى استعارة بلاغية لظلام السجن الكبير الذي زجت كل البلاد داخله، وفي "تاكسي" عام 2015، جعل من سيارة التاكسي فضاء الحرية الوحيد وسط شوارع طهران المضغوطة، ثم في فيلمه "ثلاثة وجوه" 2018، دعانا لمرافقته بحثاً عن فتاة تحاول الهروب من واقعها المحافظ، وصولاً إلى عام 2022 وفيلمه الأخير "لا يوجد دببة" الذي تتقاطع فيه قصتا حب في ظل قواعد المنع الصارمة.
هذه الأفلام الخمسة لم تكن فقط فعل مقاومة للنظام، بل طرحت بالمعنى الفني تساؤلات عميقة حول الحدود التي يقف عندها الخيال ويبدأ عندها الواقع، فالمشاهد لا يعلم بالضبط إن كان بناهي شخصية متخيلة في هذه الأفلام، أم أنه يجسد تجربته الذاتية فقط؟ وإن كان الحوار بين الشخصيات القليلة في تلك الأفلام مكتوباً أم مرتجلاً؟ وأيضاً كيف نصنف هذه الأفلام، أفي خانة الوثائقي أم المتخيل؟ وصولاً إلى السؤال الأهم: هل هذا الرجل فعلاً خطير لتلك الدرجة حقاً؟
ببساطة، نعم، هو خطير، جعفر بناهي خطير جداً بالنسبة للسلطات في إيران، فحكامها لا يريدون لأي صوت أن يعلو احتجاجاً على الواقع الذي تعيشه البلاد، ولا يريدون أن تعكس أية صورة أو مشهد حقيقة حياة الناس اليومية المهشمة هناك. لقد قدم بناهي ورفاقه للعالم عبر أفلامهم صورة حقيقية معاكسة تماماً لتلك الصورة، التي دأبت آلة الدعاية الرسمية على تكرارها دون أن يصدقها أحد، لقد قدمت تلك السينما الرائدة لنا صورة مرحة وذكية ومؤثرة سياسية، يعيد ويكرر صناعها فيلماً بعد آخر: شاهدوا أفلامنا بتمعن، نحن لسنا بخير أيضاً.