جرح لا يزال مفتوحاً أمام كل هذا الصمت

26 نوفمبر 2023
في مدينة غزة (مصطفى حسونة/ الأناضول)
+ الخط -

لم تظهر الجرائم ضد الإنسانية، بشكلها الحالي، إلاّ في منتصف القرن الـ20، بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) تحديداً. محاكم نورمبيرغ ميدانٌ حُدِّدَت فيه الجرائم الدولية: حروب الإبادة، والعبودية، والاضطهاد الذي بُني على أسباب سياسية وعرقية ودينية، أو أي جرائم تمسّ مدنيين قبل الحروب وفيها.

بالتأكيد، استلهمت السينما الكثير منها، بقصد التعريف والتذكير، وشحنها غالباً بوجهات نظر مختلفة، وإن كانت تنتصر لضحاياها. لكنّها كانت ملزمة بمعالجة الجهات المنتجة، وأحياناً كثيرة من زاوية نظر المخرج أو الكاتب.

ربما كانت مأساة هيروشيما أولى الموضوعات التي عالجتها السينما، بوصفها موضوع إبادة حقيقية، سبرت أغواره أفلامٌ عدّة بعد نهاية الحرب. "أوبنهايمر" (2023)، لكريستوفر نولان، تناول هذه الجريمة. إنّه دليل على أنّ حروب الإبادة من وجهة نظر السينما خضعت للكثير من زوايا النظر. إنّها هنا من وجهة نظر مُرتكبها. عام 2022، بعد 55 عاماً على رحيله، أسقطت الولايات المتحدة الأميركية كلّ التهم الموجّهة إلى روبرت أوبنهايمر. يبدو أنّ ذلك كان تمهيداً لعرض الفيلم.

المعالجة الأخيرة في موضوع الإبادات المتعدّدة للسكّان الأصليين في الولايات المتحدة الأميركية، تناولها أحد أهمّ مخرجي هوليوود الآن، مارتن سكورسيزي، في "قتلة زهرة القمر" (2023)، الذي قال عن موضوع السكّان الأصليين إنّه "لا يزال جرحاً نازفاً"، وإن كان يحرص على الإشارة إلى أنّ فيلمه ليس "ذا رسالة"، يتوجّه بها حصراً إلى أشخاص ذوي قناعات محدّدة، و"يبتعد عن إنسانية" الشخصيات.

هذا لا يعني أنّ الأفلام التي تناولت حروب الإبادة محكومةٌ، بالمطلق، بمثل هذه الضوابط. بل بالعكس، السينما استقصت جرائم كثيرة كهذه، وألقت ضوءاً عليها، بل ساهمت في كشف حقيقة هذه الجرائم ومُسبّبيها وتفاصيلها للمتلقّي، عندما كانت (الجرائم) أشبه بالحقيقة الغائبة.

هناك جريمة حدثت في العقد الأخير من القرن المنصرم، في رواندا: شنّ متطرّفو الهوتو، التي تمثّل الأغلبية، حملة إبادة ضد الأقلية من قبيلة توتسي. في 100 يوم، قُتل نحو 800 ألف شخص، واغتُصبت مئات آلاف النساء. عاينت السينما هذه الجريمة عبر المخرج تيرّي جورج، في "فندق رواندا" (2004)، في معالجة أقنعت مشاهديه، كما أقنعت من سمع وعرف عن الجريمة. الأمر نفسه مع مذبحة "سربرنيتسا"، التي راح ضحيتها نحو ثمانية آلاف مسلم بوسني، والتي حظيت باهتمام سينمائي واسع، إذ تناولتها أفلام عدّة، بحثت في ملابساتها وتعقيداتها، والأحداث التي مهّدت لها، ولنتائجها المؤثّرة في الأجيال اللاحقة، منها "إلى أين تذهبين يا عايدة؟" (2020) للبوسنية ياسميلا زبانيتش؛ و"الأرض الحرام" (2001) للبوسني أيضاً دانيس تانوفيتش (أوسكار وغولدن غلوب أفضل فيلم أجنبي، نسختا عام 2002).

سينما ودراما
التحديثات الحية

مأساة الشعب الفلسطيني، منذ عام 1948، حافلة بالجرائم والإبادة الإنسانية. مجزرة دير ياسين إحدى أوائل الجرائم الإنسانية التي ارتكبها المحتل في فلسطين، التي يُعدّها مؤرّخون كثيرون الناقوس الذي أعلن بداية أعمال التهجير والطرد من فلسطين، التي (الأعمال) لا يزال الفلسطينيون يعانون منها: عملية إبادة وطرد جماعي نفّذتها، في التاسع من إبريل/ نيسان 1948، المجموعتان الصهيونيتان "إيرغون" و"شتيرن"، في تلك القرية الفلسطينية (غربي القدس). معظم ضحاياها مدنيون (بين 250 و360 شهيداً)، بينهم أطفال ونساء وعجزة.

تناولت السينما، في أفلام وثائقية عدّة، هذه المجزرة، كاشفةً عن وثيقة خطرة من الأرشيف الإسرائيلي لحرب 1948، تنكأ مُجدداً جرحاً نازفاً من يوميات عدوان الاحتلال الإسرائيلي على فلسطين، جاء فيها أنّ العصابات الصهيونية نفّذت، قبل نحو 70 عاماً، عملية احتلال للقرية العربية (دير ياسين)، الواقعة على طريق القدس ـ تل أبيب. من هذه الأفلام، "دير ياسين: الوجع" (1999) لإياد الداوود، وأفلام لروان الضامن في "الجزيرة الوثائقية" (إنتاج شبكة الجزيرة الإعلامية)، التي تناولت القضية الفلسطينية منذ نشأتها، في أربعة أجزاء: "خيوط المؤامرة"، و"سحق الثورة"، و"التطهير العرقي"، و"النكبة مستمرة".

سينما ودراما
التحديثات الحية

لا بُدّ من الإشارة الى الفيلم الوثائقي الإسرائيلي "طنطورة" (2022)، للإسرائيلي آلون شفارتس الذي تناول ما قام به الباحث الإسرائيلي تيدي كاتس، وما تعرّض له من مقاتلي لواء "ألكسندروني"، المشاركين في المجزرة (ليلة 22 ـ 23 مايو/ أيار 1948)، في بداية الألفية الثالثة، بعد أن كشفت دراسته عن حقائق مجزرة قرية الطنطورة العربية، وكيف أنها مذبحة جماعية ضد المدنيين. سجّل كاتس أكثر من 100 ساعة من الشهادات الشخصية، التي تشير إلى مقتل نحو 300 من سكّانها. فيه أيضاً وثائق وشهادات، منها لضبّاط اللواء، واستخدام صُور الأقمار الصناعية لإثبات وجود مقبرة جماعية في المنطقة.

عرف "طنطورة" قبولاً كبيراً من الفلسطينيين، كما من المؤسّسات الرسمية، بوصفه صالحاً لأن يكون مادة قانونية يُمكن الاعتماد عليها باعتبار الفيلم تحقيقاً جنائياً، مزوّداً بالأدلة والإثباتات والشهادات الحية. الفيلم، قبل كلّ شيء، أعاد طرح هذه القضية مجدّداً، وهذه مهمة السينما أساساً.

المساهمون