بينما نحن مُهدّدون بالشيخوخة المبكرة، في زمن كورونا، فلنستعِد طفولتنا، ولنتحلّق حول جدّاتنا، اللواتي يحرسن ذاكرة شفهية شعبية ببعد كوني. لحكايات الجدّات منطق يفهمه الأطفال في القارات كلّها. كونيّة السرد هذه رهانُ هوليوود لتكون حكاياتها وأفلامها مُمتعة في البلدان كلّها، وتسوِّق الأمل: "ابتسم للحياة"، "لا تنسَ أنْ تفتح قلبك"، "دع همّك خلفك".
يبدو أنّ البشر نسوا هذا تماماً، في زمن كورونا. بل يصفون الداعي إليه بالغباء. إذاً، تجهّموا. فطيلة عام 2020، تعمّقت الكآبة في المجال العام، بعد جدل رسومٍ كاريكاتوريّة مسيئة، من دون ظهور رسوم كاريكاتورية مُبهجة. ثم انتخابات أميركية على حدّ الحبل، والرصاص في كاراباخ وإثيوبيا.
يكفي هذا التجهّم. لنهرب إلى الخيال بحثاً عن فرحٍ ونظرةٍ إيجابية إلى الحياة، كما في Jingle Jangle: A Christmas Journey لديفيد إي تالبرت (1966). فيلمٌ (2020، تعرضه "نتفليكس" منذ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) يحضّ على تحمّل الحياة وحبّها رغم المصاعب، ويستثمر تقليداً عريقاً في السرد الشفوي: أطفال يجلسون حول جدّة تحكي لهم قصّة مُشبعة بالأسرار، عن صانعٍ يُدعى جيرونيكوس (فوريست ويتايكر)، يريد الارتقاء إلى مرتبة فنان، فيُخصّص وقته لفنه، ويواجه المجهولَ ليقدّم عالماً من الأعاجيب.
الآلات التي يستخدمها البشر اليوم لم تنزل من السماء. تطلّب ابتكارها وقتاً طويلاً لتعمل بكفاءة. في هذا السياق، يريد جيرونيكوس تقديم عمل يُدهش الأطفال ويُبهجهم في أعياد الميلاد. يريد الارتقاء من صانعٍ إلى فنان. الفنان الحقيقي يسقط وينهض بطريقة تُصيِّره أفضل مما كان. بفضل هذه الابتكارات، يصير موقع الفنان أعلى من موقع الحِرفي في المجتمع. بحسب جيمينيز مارك، "ظهر الفنان كفاعل خلاّق مستقل في نهاية القرن الـ15 في إيطاليا" ("ما الجمالية"، ترجمة شربل داغر، المنظّمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص. 52).
يصنع الفنان بهجة المدينة، لكنْ لديه منافس ظاهره صديق وباطنه عدو، يمكنه أنْ يسرق جهده ويفتخر به. منافسٌ لا يصنع شيئاً، لكنْ يعرف كيف يُسوِّق نفسه. في معركة الفنان والسمسار حول الشهرة والثروة، ينتصر السمسار عادةً. في ظلّ هذه المصائب، يحتاج الفنان إلى تنمية مناعة إزاء الاستخفاف الذي يتعرّض له.
يرفع الفيلمُ تحدّياً هائلاً: كيف يصبّ محتوى جاداً في قالبٍ هزلي؟ النتيجة: فيلمٌ مُوجّه إلى الأطفال والكبار الذين أقرفتهم ظروف كورونا. فيلمُ فرجةٍ كوميدية خفيفة، تستعيد سينما السيرك. فيه نزعة بهلوانية زائدة، ورسومٌ تتكلّم، وكائنات عجيبة ترقص. هكذا يستثمر الفيلم التأثير العجائبي للعالم البدائي، الممتدّ طويلاً جداً، تاركاً بصمته في تخيّلات البشر.
ما معنى هذا لمتفرّج متجهِّم، يُخطّط للانتحار؟ لا معنى له من دون تواطؤ. شرطُ تلقّي الدهشة التواطؤ معها. يقول جوناثان غوتشل: "حين نَدخل عالمَ حكاية ما، نُتيح للراوي أنْ يقتحمنا، إذْ يخترق صانع الحكاية رؤوسنا، ويُحكِم السيطرة على عقولنا". لتحقيق هذا، لا بُدّ من "تعطيل طوعي لشكّ القارئ" ("الحيوان الحكّاء، كيف تجعل منا الحكايات بشراً؟"، ترجمة بثينة الإبراهيم، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2018، ص. 15 ـ 19). بتواطؤ إراديّ كهذا، يبدأ التصديق ثمّ التماهي مع ما يجري من أحداثٍ في الحكاية والفيلم.
حين نُصدّق منطق الحكاية، نستمتع برقصات السيرك، وبالكائنات الغريبة التي تخرج من رسوم الفنان. قبل أنْ نملّ الرقص، نقف على عزلة الفنان وهو يفكّر في عمله. يبدو الفنان في عزلته أقرب إلى قدّيسي الصحراء. يعمل تحت ضغط الديون. روائي روسي عاش سابقاً ظروفاً كهذه. إنّها محنة الفنان حين يفارقه الإنجاز، لذلك ينعزل ليبدع.
ما هو الإبداع؟ تقديم شيء جديد، ثوري، حديث. هذا لا يُدرَك بسهولة.
ماذا يحتاج الفنان لينجح؟ يحتاج إلى من يؤمن به من حوله، وهذا نادر. لذا، كلّ فنان منبوذ كنبيّ بين أهله، وهو واثق من أنّه يستحق العظمة.
في الثلث الثالث من الفيلم، يخفّ قلق الفنان، ويزداد أمله في التفوّق. صار يرقص مع الأطفال في عالم عجائبي. يتتبع الفيلم بصمات حكائية قديمة، تتردّد في مطلعه "كان يا ما كان في قديم الزمان". استُخدِم ماكياج مُبالغ فيه للإيهام بالمسافة الزمنية، وبتقادم الحكاية.
يُصوِّر "جينغل جانغل" أطفالاً نشيطي الخيال، يحبّون المعرفة والاختراعات. تبثّ الطفولة حيوية هائلة في حياة الفنان العجوز، الذي يُمكِّنه الاستماعُ إلى الأطفال تجاوز أزمته الإبداعية. الطفولة تُحرّره من كآبته.
عادة، يحتقر الكبار مواهب الأطفال. لكنْ، مع الزمن، يستفيد الجدّ جيرونيكوس من مواهب الحفيدة. الطفل لا يملّ ولا يعرف الفشل، ويُعيد اللعب إلى ما لا نهاية. يتّضح أنّ ألعاب الأطفال تقوم على أسس رياضية. مع مسار الفيلم، يتراجع الاستعراض وتتقدّم البيداغوجيا. يجري حوار الأكبر سنّاً مع الأصغر سنّاً في وفاق تام، في حكايات الجدّات في الثقافات كلّها.
في هذه الحكايات، يحصل أنْ تكون الشخصيات خيّرة وواضحة جداً، وهذا مُملّ. لذلك، يواجه الفنان شخصية شريرة، السمسار الذي يتاجر بعرق الآخرين. المبدع يعاني، وسارق جهده يستمتع بالشهرة والمال. بفضل الأطفال، يحلّ اللغز، وتتحقّق العدالة، ويصير المستقبل أفضل.
هذه رسالة الفيلم إلى المتجهّمين.