كيف حال فيتنام بعد أنْ حرّرت نفسها من أميركا؟
حال مجهول. اختفى البلد الثوري طويلاً من الشاشات، منذ "القيامة الآن" (1979) لفرنسيس فورد كوبولا و"فول ميتال جاكيت" (1987) لستانلي كوبريك. لذلك، هناك اشتياق إلى فيتنام، سينمائياً. "نتفليكس" تُعيد البلد إلى الشاشة العالمية، بفيلمٍ أنجزته ابنة البلد. هكذا، لن تبقى النظرة الإخراجية الأميركية عن فيتنام مُسيطرة.
لفرونيكا نْغو فيلمٌ جديد (2022)، بعنوان Furies: شابة فيتنامية في تسعينيات القرن الـ20، فقيرة وغير متعلّمة، كأغلبية الشعب، تقتحم أرضاً مجهولة. هاربة من نار ودم إلى المدينة الكبيرة، سايغون، المجد الثوري والبؤس الاقتصادي. في استقبالها، سُئلت: "بمَ يناديك الناس؟". أجابت: "ساقطة". قَبِلت الصفة التي ألصِقت بها. امتصّتها وتعايشت معها. شابّة، رأسمالها جسدها المنتهك مرّات. لم يعد لها ما تخسره. تتمرّن على العيش في عالمٍ يحكمه قانون الغاب. صار الرجال ينظّمون الدعارة. هكذا، لم يعد بإمكان الأنوثة أنْ تحتمي بالرجولة في المدينة الكبيرة.
تعتبر النساء المسنّات هذا العنف "قضاءً وقدراً". لذا، يُخفّفن عن أنفسهن. بينما تعتبر الشابات ما جرى ويجري لهنّ جريمة تستحق العقاب. تتناوب المعارك الشرسة، ولحظات المكاشفة الهادئة والمؤلمة، فتنكشف قلة الخيارات أمام الفتيات الفقيرات غير المتعلّمات. تلك المكاشفة تفسير وتبرير لكلّ العنف الذي يجري.
هذه فتاة في عالم يحكمه قانون الغاب. تتمرّن على التعامل مع العنف اليومي. تلتقي شبيبتها لمقاومة قسوة لا محدودة، في قصّة حتمية بيولوجية. مقدّمات عنيفة، تفرز تطوّرات أعنف، ترتّبت عنها حتمية الأدوار الاجتماعية. عنف وسرقة وتشرّد، وهبوط مستمر نحو الجحيم.
جلبت فرونيكا نْغو واقعاً جديداً، من مجتمع عاش حروباً متّصلة. يسحقُ العنف المزمن الفردَ والمجتمع. يصعب بناء ما سُحق. هذه صورة مريعة عن بلد ما بعد الثورة. في غياب دولة الحق والقانون، لا جواب على العنف إلّا العنف.
هذا النقد تفاعلٌ حيّ مع فيلمٍ أقلّ من متوسّط. مشكوكٌ في أنْ يكون النظام الديكتاتوري في فيتنام سمح بالتصوير في سايغون. هذا المنع والخوف من الصورة الحرّة من سمات بلدان الثورة المزمنة، التي تعرف انتشار وعي هويّاتي حادّ، بسبب طول فترات الاستعمار. وعي يتطلّب تعديله فترة طويلة.
شابّة عزلاء ضحية عنف منفلت، لكنّه مُبرّر، نظراً إلى ما تعرّضت له فتيات تقلّ أعمارهن عن 20 عاماً. بالنسبة إلى الزبائن، هذا عمر السلعة الجيّدة. لفهم قانون العرض والطلب في هذا المجال، أي لفهم ما يجري، ينبغي البقاء في شاطئ الدار البيضاء حتى بعد منتصف الليل. هناك، تبقى الجميلات بلا حماية، وتصير تجارة البشر فعلاً بالتراضي والتواطؤ.
الزحام سبب رئيسي للنزاعات. لذا، تخرج الضحية من موقعها، وتهاجم، وتبني قصة هوية جديدة. صارت الضحية جلاداً عادلاً. هكذا يؤسّس Furies صورة جديدة للمرأة، في بلدٍ يعاني التجارة بالبشر، وتجارة البشر بأنفسهم، للعيش في مناطق تعرف سياحة جنسية كثيفة.
تحسّن اقتصاد فيتنام عام 2020. لكنّ فرونيكا نْغو اختارت ما جرى عام 1990، لتكشف وضع بلدها. بالموازاة مع نتاجات هوليوود، تقدّم "نتفليكس" جغرافيا سينما العالم. ما بعد "القيامة الآن"، جاء دور الجحيم الأرضي في فيتنام. في جغرافية مزدحمة بالبشر والجوع والعنف. هناك جحيم النساء في مجتمعات الزحام، التي سلّط عليها ظهور كورونا الضوء. منذ ذلك الحين، صار ما يجري في أقصى شرق آسيا مُقلقاً لباقي العالم.
في كازينوهات البؤساء، عنف آسيوي، ومتعة إذلال النساء، واستباحة تجعل الإحساس بالأمان مستحيلاً. حصلت القضية النسوية على زخمٍ كبير في القرن الـ21. قضية تملك شرعية أكبر في مجتمعات يسود فيها عنف رهيب تجاه النساء. بما أنّ الدولة غائبة أو متواطئة، يجب على كلّ فرد أنْ يقاتل، ليحصل على حقّه بيديه. هذا أفرز "غونغستيرات" فيتناميات عادلات. هذا من كليشيهات أفلام هونغ كونغ عن اليتامى، الذين يساعدهم الحظّ في العثور على عائلات تحتضنهم، فتتغيّر حياتهم. فنياً، هذا عالم مافيوزي مُصوّر بطريقة الهواة. غلب تصوير المعارك على المقاربة السوسيولوجية النضالية، لأسبابٍ تجارية. هناك إيقاع سريع، وموسيقى تصويرية ميكانيكية، مع ضعف في الأداء. في التصوير والتمثيل، نقاط ضعف كثيرة، ومبالغات في المعارك، وبحث مكشوف عن الإثارة، وتعبير عن الغضب مما يجري.
يفتقر Furies إلى جماليات سينمائية كثيرة. تحتاج المخرجة والممثلة فرونيكا نْغو إلى وقتٍ طويل لصقل أسلوبها. لا تكفي عدالة القضية لصنع فيلمٍ سينمائي جيد.