رحيل جان ـ لوك غودار (13 سبتمبر/ أيلول 2022)، منبثقٌ من رغبةٍ لديه في الموت. "ليبراسيون" (الصحيفة اليومية الفرنسية) تذكر أنّه يطلب المساعدة على الانتحار، ناقلةً عن قريبٍ له قوله إنّه "لم يكن مريضاً، بل مُنهكاً، بكل بساطة".
موتٌ رحيم أو انتحار؟ إنّه "طلبٌ للمساعدة على الموت"، متأتٍ (الطلب) من شعور عميق بأنّ الجسد والروح مُثقلان بتعبٍ غير مُحتَمل. تفكيرٌ بالموت يُرافقه منذ سنين مديدة، وردٌّ يتفوّه به على سؤالٍ في حوار مع داريوس رُشُبان، في برنامج Pardonnez-Moi ("إذاعة وتلفزيون سويسرا"، RTS، 26 مايو/ أيار 2014)، يكشف موقفاً يبدو، غداة رحيله، متجذّراً فيه. يقول رُشُبان: "عندما تموت، بعد وقتٍ متأخّر قدر الإمكان..."، فيُقاطعه غودار قائلاً: "ليس بالضرورة في وقتٍ متأخّر قدر الإمكان". يتساءل المُحاوِر عن مدى استعجال/عدم استعجال غودار في الموت، فيردّ مخرج "وداعاً للّغة"، المعروض حينها في المسابقة الرسمية للدورة الـ67 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2014) لمهرجان "كانّ" السينمائي، بأنّه "غير متلهّفٍ على الاستمرار (في الحياة) بالقوّة"، مضيفاً أنّه، عندما يُصبح مريضاً جداً، "لن تكون لديّ رغبةٌ في أنْ أُجَرَّ في عربةٍ"، مُشدّداً على رفضه هذا بتكرار مفردة "أبداً".
كلامٌ كهذا غير مُنتهٍ. غودار يُقيم في سويسرا منذ أعوامٍ طويلة، وهناك يُسمح قانونياً بـ"المساعدة على الانتحار". المادة 115 من قانون العقوبات، الصادر عام 1937، تنصّ على أنّ "الدافع الأناني" الذي يحثّ شخصاً على الانتحار، أو يساعده في ذلك، يؤدّي إلى عقوبة بالسجن 5 أعوام كحدٍّ أقصى، أو إلى دفع غرامة مالية (غير مُحدّدة). قارئو المادة يقولون إنّ "الدافع الأناني" هذا "يُتيح هامشاً مهمّاً من التقدير"، ويسمح لجمعياتٍ مختلفة (Exit و Dignitas و Life Circle) بتقديم مساعدة طبية لمن يرغب في الموت.
البيان الصادر باسم زوجته آن ـ ماري مِيَافيل يُؤكّد أنّ موته حاصلٌ "بسلام"، بين مقرّبين إليه، في منزله في "رول"، على ضفاف بحيرة "ليمان". هناك من يُخبر "ليبراسيون" بأنّه "غير مريضٍ، بل مُنهك"، وهذا دافعٌ له إلى اتّخاذه قرار "إنهاء حياته". في الحوار الإذاعي/التلفزيوني نفسه، يسأل داريوس رُشُبان عما إذا كان مستعداً للّجوء إلى "طلب المساعدة على الانتحار"، فيُجيب غودار بـ"نعم" حاسمة، قبل أنْ يذكر له أنّ هذا الموت المُختار، "لا يزال صعباً للغاية"، حالياً (أي لحظة الحوار، وفي المدى الزمني المنظور، على الأقلّ، حينها).
بعد 8 أعوام، يؤكّد أقارب لجان ـ لوك غودار إقدامه على هذه الخطوة. مفردة "مُنهَك"، المعطوفة على طلب المساعدة على الانتحار/الموت، مُثيرة لتفكيرٍ، يستعيد لحظاتٍ سابقة، تشهد أكثر من محاولة للانتحار يُقدِم عليها، في ظروفٍ مختلفة، مع التنبّه إلى أنّ له "تفكيراً فلسفياً" يتعلّق بسؤال الانتحار. علاقته بالممثلة الفرنسية آنّا كارينا، مثلاً، عاصفةٌ، بدءاً من رفضها تأدية دور صغير في A Bout De Soufle، يعرضه غودار عليها عام 1960. في تصوير Une Femme Est Une Femme، عام 1961، يحصل جدلٌ عنيف بينهما، يؤدّي به إلى قطع عروقه.
للناقد السينمائي الفرنسي جان ـ لوك دْوان قولٌ مفاده أنّ "غودار مفتونٌ بالانتحار" ("جان ـ لوك غودار، قاموس المشاعر"، منشورات "ستوك"، باريس، 2010). في "موسيقانا" (2004)، يطلب من ممثلةٍ مشاركة في فيلمه هذا قراءة جملة من "أسطورة سيزيف" (1942) لألبير كامو: "هناك مشكلة فلسفية واحدة جدّية: الانتحار" ("ليبراسيون"، 13 سبتمبر/ أيلول 2022). غداة رحيله، يتذكّر سينيفيليون عديدون أنّ مسألة الانتحار حاضرةٌ في بعض أفلامه، كما في Soigne Ta Droite، المُنجز عام 1987، إذْ يضع بين يديّ الممثل ميشال غالابْرو كتاب "الانتحار، تعليمات للاستخدام" لكلود غيّيون وإيف لوبُنْياك، الصادر عام 1982 (مائة ألف نسخة مباعة)، والمُعرَّض لسجالات ومحاكمات، بعد "تحريضه" على انتحار أناسٍ عديدين، والممنوع بيعه في فرنسا 9 أعوام بعد صدوره. لاحقاً، يُسأل غودار إنْ كان لا يزال يحتفظ بهذا الكتاب، فيُجيب بـ"نعم"، مرفقة بأنّه غير قارئ له مُجدّداً، "منذ فترة طويلة".
دْوان نفسه يُشير إلى أنّ السينمائيّ يضع في محفظته شفرة حلاقة، ويذكر أنّ إيريك رومر، المخرج الفرنسي المُشارك مع غودار وآخرين في ابتكار الموجة الجديدة في السينما الفرنسية (ستينيات القرن الـ20)، يعثر عليه ذات يوم "غارقاً" في دمه، في الاستديو الخاص به، "كي يصنع أنشودة ملحمية يختتم بها حياته بطريقة وحشية". غودار نفسه يُفسّر معنى إحدى محاولاته المتعدّدة للانتحار، في حوار مع روبر ماجوري ("ليبراسيون"، 15 مايو/ أيار 2004): "(هذه محاولة) مُنجزة بشكلٍ دجّال، إلى حدّ ما، لإثارة انتباه الناس إليّ"، وذلك في منزل صديقٍ له، لم يذكر اسمه. هذا حاصلٌ بعد "أيار 68"، ووالده، الطبيب بول، "يضعه" في مصحّ للاضطرابات النفسية: "هناك، سيُرغموني على ارتداء سترةً مُقيِّدة، منعاً لقيامي بحركات تعيسة، على الأرجح". عندها، ينتبه غودار (كما يروي) إلى ضرورة المحافظة على الهدوء، "وإلّا، فإنّهم لن يطلقوا سراحي أبداً".
في 13 سبتمبر/ أيلول 2022، يُطلق جان ـ لوك غودار سراح نفسه وروحه، فيُغادر حياةً يملؤها بسجالات وإشكاليات ومسالك وأفلامٍ، ستبقى مؤثّرة وفاعلة في الثقافة والفنّ والفكر والاجتماع والإعلام والعلاقات والتفاصيل الحياتية.