يُعرف المُخرج المصري داود عبد السيد (1946) بكونه من كبار المخرجين العرب، الذين تميّزت أفلامهم بإبدالاتٍ جماليّة مهمّة، وراكموا متناً فيلموغرافياً مُغايراً في السينما العربيّة، حين بدا المَشهد السينمائي حائراً بين تقليدٍ وحداثة، وبين محاكاة أنماط ونماذج الفيلم الغربيّ ورومانسياته الكاذبة، والخروج من جبّه وشرنقته، إلى فضاءاتٍ تخييلية مُبتكرة، تُعلي من سُلطة الواقع، باعتباره سنداً فكرياً للتخييل، ومُختبراً جمالياً حقيقياً للتجريب البصريّ، من خلال البحث عن منافذ ضوءٍ جديدةٍ، تفتح الصورة السينمائية على ذاكرتها التاريخيّة وجُرحها. لكنّها تظلّ، في الآن نفسه، مُتيقّظة تجاه تحوّلات اجتماعية، وتبدّلاتٍ سياسيّة، كانت تشهدها المرحلة السبعينيّة بكلّ مواجعها وأرقها وخيباتها.
في هذا ما يستحقّ المُعاينة والنظر والتأمّل في السيرة الفنية لداود عبد السيّد، ومَكانته في السينما العربيّة، وقُدرته على الإبداع والابتكار والنقد في مساحةٍ (كادر) بصريّة صغيرةٍ، يُشرّح فيها الواقع المصري، ويُعرّي خيباته وويلاته، تجاه التاريخ والسُّلطة وذاكرتها.
هذا لا يُعثر عليه إلا في سينما محمّد خان وجان شمعون وصلاح أبو سيف ومارون بغدادي وبرهان علوية وجوسلين صعب وغيرهم، حيث تُصبح السينما ضرورة وجوديّة، وموقفاً من واقعٍ وتاريخٍ وسُلطةٍ. إنّهم يُغذّون الشعور المجتمعي بأهميّة السينما وصُورها، وقُدرتها على المقاومة في كلّ زمنٍ رديء وموجعٍ، يُحاول فيه فقهاء الظلام وسماسرة السراب وقتلة الأحلام أنْ يُجهضوا، بكلّ أسلحتهم الإيديولوجية والقمعية، المُكتسبات الرمزية والجمالية، بوصفها فضاءً للعيش والحلم والتمنّي.
ما تُعلّمه سينما داود عبد السيّد، الفائز بـ"جائزة النيل للفنون" (7 يونيو/حزيران 2022)، أنّ تلك النظرة المزدوجة والمُتناقضة في تأمّل مفهوم الواقع العربيّ، كمتاهةٍ بصريّة، لا يُمكن القبض على أفقها، أو حتّى التنبؤ بأحلامها وهواجسها. لذلك، فإنّ مُشاهد "الصعاليك" (1985) يكتشف ذلك التوهّج البصريّ الآسر، الذي نحته المُخرج في إبراز تحوّلات الأبطال من فقرهم إلى ثرائهم، مُعرّياً إياها من الداخل، ونازعاً عن وقائعها كلّ مظاهر القداسة والخيال والسحر والفانتازيا، إذْ تنفتح الكاميرا، بمُختلف صُوَرها وأنماطها، على خيبات المجتمع وتحوّلاته، وتلتصق أكثر بمسام أجساد الناس ومَشاغلها.
لا غرابة في ذلك، فعبد السيّد كتب مُعظم سيناريوهات أفلامه السينمائية وحواراتها، وهذا ليس عادياً، لرجلٍ عُرف بكونه فيلسوف السينما المصرية، رغم أنّ له 9 أفلامٍ روائية. فإنجاز أفلامه يأخذ، عادة، وقتاً طويلاً في التأمّل والتفكير والتخييل، قبل بدء مرحلة القراءة، ثم الـ"كاستينغ" والتصوير. ما يعني أنّ الفعل السينمائيّ لديه يظلّ مُرتبطاً بمفهوم "الشغف"، ومدى قُدرة صاحب "الكيت كات" (1991) على تطويع ذائقته الجماليّة وإسقاطها على الفيلم. هذا يُفسّر المسار الطويل الذي تمرّ به أفلام عبد السيّد لإخراجها، إذْ تقترن، عادة، بذاته وأحلامه وقلقه، ولا تهتمّ بتفاصيل الآخر وتطلّعاته، ولا بمُؤسّساتٍ إنتاجية، جهدت، منذ نهاية تسعينيات القرن الـ 20، في استقطابه، وجعله يُنتج أفلاماً مُستهلكة في موضوعاتها وأساليبها، وكلّ ما تقترحه من أفكار وصناعة.
على هذا الأساس، لم يكُن مُستغرباً من صاحب "أرض الخوف" (2000) أنْ يثور، دائماً، على وسائل إعلامٍ مُختلفة، بسبب النظرة السطحية التي تعمل السُّلطة ومُؤسّساتها الفنّية على تكريسها، باعتبارها نموذجاً مُختلفاً لسينما جديدة، تُطبّل لها أسماءٌ إنتاجية مصرية، رغبة منها في حصد مزيد من جوائز مهرجانات سينمائية، أصبحت تُصنع على شكل مقاساتٍ لأفلام صالحة للمُشاهدة والاستهلاك والنسيان.
إنْ بدت آراؤه راديكالية، من حيث مُنطلقاتها الفكريّة وطرحها الفنّي ـ الجمالي، فلأنّ السينما الرسمية ومهرجاناتها تعمل على تهميش المُختلف وتكريس المُكرّس من رداءة صُوَرٍ وقولٍ لا يُعوَّل عليهما. بدا السخط كبيراً عليه، ولا سيما بعد الفشل التجاري الكبير الذي شهده فيلمه الأخير "قُدرات غير عادية" (2015)، في وقتٍ تسلّقت فيه أفلامٌ مُرتبكة شبّاك تذاكر الصالات المصرية. لا لأنّ فيلم عبد السيّد ضعيف وهشّ، ولا يُساير السينما المصرية وتطلّعات المُشاهد، بل لأنّه بدا أكبر، في تطلّعاته وهواجسه وأحلامه واضطراباته، من سينما مصرية تلهث وراء رومانسية مُفتعلةٍ، تحنّ إلى خمسينيات القرن الـ 20.
مشكلة الأفلام الأخيرة لداود عبد السيّد لا ترتبط بهشاشة نصوصه، بل بتمركزه الحصيف على الشكل الفيلمي نفسه، موضوعاً وتخييلاً وصناعة. في ذلك إزعاجٌ لمُؤسّسات ربحية، تنزع عن السينما المصرية التزامها الوجودي، وجدّيتها الفنّية، وتزجّ بها في أحضان التجارة والترفيه. أكّد الزمن أنّ التزام عبد السيّد لم يتغيّر، وأنّ مواقفه وآراءه لا تزال ثابتة، وأنّ الارتباك والتغاضي والامتعاض من سينماه ليست بسبب فيلمه الأخير، ولا بسبب تحوّلات فنّية ومفاهيم جماليّة ألمّت بالسينما المصرية الجديدة، بل تعود أساساً إلى مفهوم الواقع المصري، وما غدا يحبل به من أسرارٍ ومآزق وتصدّعات. لذلك، تبدو سينماه كأنّها تقف سامقة في مساحةٍ جماليّة بعيدة، لم يعد المُشاهد بصفةٍ عامّة يقوى على مُشاهدتها وفهمها وتفكيكها بصرياً، رغم أنّها قريبة منه أكثر من أيّ وقتٍ مضى، في اختلاله الاجتماعي والبنيويّ، واضطراباته السياسية والسلطوية.
"جائزة النيل للفنون" تتويجٌ، اعتبره عبد السيد "الأهمّ" في حياته، ما جعله عرضة للنقد والسخرية: كيف يستطيع مخرجٌ قبول جائزة ممنوحة من الدولة، بعد قرار اعتزاله قبل أشهر؟ نقده ـالمُضمر في أفلامه الأولى، والواضح في تصريحاته الإعلاميةـ لم يكُن مُوجّهاً إلا إلى هذه السُّلطة ومؤسّساتها الإنتاجية، التي ترعى المجال السينمائي، وتُحوّله إلى بضاعة وتجارة وترفيه مُنمّط. ورغم صعوبة هذا الطرح، في فهم العلاقة بين الذات والإبداع والسُّلطة والاعتزال، يظلّ السؤال مشروعاً.
قراره باعتزال السينما، الذي أعلنه قبل أشهرٍ قليلة في مقابلةٍ تلفزيونية، نوعٌ من صرخة ضد نموذج مُشاهد اليوم، عرّضته للنقد والمدح، والاستفزاز والتضامن. وهذا ليس جديداً أو غريباً عن شخصية ذاتية مُعقّدة وحكيمة، تُشبه أفلامها. إذْ يصعب التأثير في شخصه وسلوكه وتفكيره، مع أنّ صُوَره السينمائية تبقى مفتوحة على تأويلاتٍ بصريّة مُذهلة، لما تفرضه في ذهن المُشاهد من تأجيجٍ للأسئلة، ومُضاعفة للفكر، وترويض للّغة النقدية على شعريّتها وتوقها إلى لانهائيتها.
لكنْ، ما علاقة الجائزة ـ التكريم ـ الاعتراف بقرار الاعتزال عن إخراج أيّ عملٍ سينمائيّ في المرحلة الراهنة؟ أليس الأمر مُختلفاً، وله علاقة بموقفٍ من راهنٍ فنّي مُتصدّع، وغير قابل على فهم طبيعة اشتغالاته وأفلامه، ومدى حرصه على البقاء مُلتزماً قضايا الناس وهمومهم؟ هل يجوز، في حالة الطرح الأوّل، الحديث عن ازدواجية المواقف، في خطابه السينمائي؟
هذه أسئلة قابلة لتحويل الهامشيّ إلى مركزيّ، مع أنّها لا تُفيد راهن السينما المصرية في شيء، لكنّها قادرة على تحريك مناطق يبابٍ في ذاكرة النقد، وتحويل هذا المنسيّ إلى أحلام يقظة، قادرة على التجديد والنقاش، في ضوء ما شهده تاريخ السينما في علاقتها بالذات والمبدأ والالتزام، ولا سيما أنّ ما ينتقده عبد السيّد ليس السينما التجارية نفسها، بل التحوّل الجذري الذي أصاب الفنّ المصري في تركيبته ومُتخيّله، حتّى غدا هذا النموذج كأنّه تعويذةٌ مُكرّسة، ينفي بموجبها المنتجون كلّ الأشكال الفيلمية المُلتزمة. هنا، تتحوّل السينما من كونها فنّاً ديمقراطياً (ستانلي كافيل)، قادراً على تبرير الاختلاف وحريّة الرأي والاختيار في الحلم والعيش، إلى سُلطةٍ مُعنّفة (رمزياً) للناس وأجسادهم وأذواقهم، من خلال فرض نموذج واحد في الصالات السينمائية المصرية.
لم تختفِ سينما داود عبد السيّد من المَشهد السينمائي العربيّ، بل مُجمل السينما المُلتزمة قضايا الناس ومُجتمعاتهم، في علاقتها بقضايا الذات والتاريخ والسُّلطة. فلا غرابة أنْ تخلق مَشاهد سينمائية مصرية عابرة اضطراباً اجتماعياً وجدلاً سياسياً، باعتبارها تدخل ضمن التابوهات والمُحرّمات، فيُلاحظ الناقد والباحث والصحافي الحجم الذي يأخذه هذا الجدل على مساءلة سينمائية تافهة، لم يكُن سيسمع بها الناس في السبعينيات الماضية، لو أنّها عُرضت في مهرجان أو صالة أو قناة تلفزيونية. هذا التحوّل الموجع يُؤرق داود عبد السيّد، لأنّه يضع الوجود السينمائي في مرحلة ما قبل الحداثة، بعد كلّ المَباهج السينمائية العربيّة المُذهلة، التي نحتها مخرجون عرب عديدون.