تيل ليندمان... ما يحدث خارج الأغنية

18 سبتمبر 2023
لطالما أثار ليندمان النفور بسبب أدائه المليء بالعنف الذكوري (سانتياغو بلوغورمان / Getty)
+ الخط -

لعلّ فرقة رامشتاين (Rammstein) الألمانيّة، هي اليوم من أشهر فرق الروك الصاخب في ألمانيا والعالم. تأسست هذه الفرقة عام 1994، ومن أهم مميّزاتها أن شهرتها وسمعتها ما انفكّت تزداد ازدهاراً منذ انطلاقتها، رغم أنّ معظم أغانيها باللغة الألمانية.

ومن أبرز الوجوه في هذه الفرقة، المغنّي تيل ليندمان (Till Lindemann)؛ إذ إن غناءه يشتمل أيضاً على الأداء الاستعراضي في الحفلات والتواصل مع الجمهور. ومع الوقت، ازدادت شخصيّة ليندمان الفنّية تميزاً بفضل أعماله الفرديّة. فهو بالإضافة إلى أعماله مع فرقة "رامشتاين"، له أعمال مع فرقة أخرى تدعى "ليندمان" (Lindemann) ومجموعات شعرية، هي "سكّين" (Messer, 2002) و"في الليالي الهادئة: قصائد" (In stillen Nächten: Gedichte, 2013) و"100 قصيدة" (2020). ويبرز ليندمان في كلٍّ من شعره وأدائه الفني إنساناً سوداوياً غايةً في التفكُّر، ورجلاً ينغمس برغباته بعنف.

وفي حين أن ليندمان دائماً ما أثار الجدل والنفور بسبب أدائه المليء بالعنف الذكوري، إلا أنه في الآونة الأخيرة، باتت سمعته في مأزق حقيقي، إثر اتّهام عديد من النساء اللواتي كنّ جزءاً من جمهور حفلاته، بالتعنيف الجنسي. فقد طفحت صفحات الإنترنت بالحجج تجريماً أو دعماً لليندمان، ونُظّمت الوقفات الاحتجاجيّة على مداخل حفلاته.

ونظراً إلى أن أداء ليندمان الفنّي وكلمات أغانيه -بالذات تلك التي تتناول الجنس- فيها من العنف والفجاجة ما يوحي بأن التهم "تلبسه"، إلّا أن الجزم ببراءة أو جرم ليندمان أمراً ليس بسيطاً، لا بل إن أعماله التي تتناول الجنس هي نفسها باتت، بعد رياح الاتهامات، موضوع يستأهل النقاش فيه.

سمعة في مأزق

تشابهت التهم الموجّهة لليندمان، ومفادها أنه جرى استدراج وتخدير نساء من بين جمهور حفلات "رامشتاين" بشكل منظّم من أجل ممارسة الجنس بشكل عنيف معه، ومع بعض الآخرين.

لكن لم يصدر حتّى الآن أي حكم قضائي بتجريم ليندمان. فقد وجدت محكمة هامبورغ أن لا دلائل كافية حول تلازم تخدير النساء وتعنيفهنّ جنسيّاً، إلا أنها اشتبهت بممارسة ليندمان للجنس مع نساء بغير وعيهنّ. وعليه، فإن محكمة برلين المحلّيّة حاليّاً في صدد تتبّع الشبهات حول ليندمان وأعضاء الفرقة الآخرين. كذلك بات هناك فرق إرشاد تجول في حفلات "رامشتاين" لتأمين سلامة النساء في الجمهور. وفيما أن ليندمان ما زال بريئاً قضائياً، إلا أن الضجيج الإعلامي المرافق لحدث كهذا بالنسبة إلى موسيقي شهير قد يكون أكثر تأثيراً في سمعته من حكم قضائي.

ومن جملة هذا الضجيج الإعلامي، أنّ إحدى المؤيّدات لبراءة ليندمان، كانت قد صرّحت أمام إحدى وقفات الاحتجاج على حفلة له أقيمت في مدينة بِرن السويسريّة، بأنه يجب عدم المماهاة بين أداء الفنّان وشخصه الفعلي. وبالفعل، فإن أهم الحجج التي استُخدِمَت للجزم بجرم ليندمان هي -إلى جانب الاستناد إلى تهم النساء له- بالضبط المماهاة بين شخصه وأدائه الفنّي. ففي مقال من بين الأكثر شهرة نُشِر حول "فضيحة ليندمان"، يدعى "شَفَق الآلهة"، نُشر في مجلة دير شبيغل، نُكِّل بأسلوب ليندمان الفنّي، واعتُبِر هذا الأخير دليلاً على صحّة التهم الموجّهة إلى ليندمان. فهل من الحق فعلاً المماهاة بين ليندمان الشخص وليندمان الفنّان؟ أم أن هناك حدوداً لحرّيّة ليندمان، أو أي فنّان، حينما يشتمل أداؤه على فكرة تعنيف النساء وتشييئهن؟

هل من الحق المماهاة بين ليندمان الشخص وليندمان الفنّان؟

من المفهوم المطلق

من المعهود أن تكون المرأة في الأعمال الفنّية الشتى موضوعاً جنسيّاً. وبالواقع، يمكن القول إنه توجد حقول دلالية كثيرة عن الجسد الأنثوي أو عن العلاقة الجنسية القائمة بين الرجل والمرأة في كلّ مجتمع. وتشكّل هذه الحقول الدلاليّة المرجعية للجماليّة في الفنون، سواء أكانت لوحات رسم أم رقصاً أو أغاني أو قصائد. لكن ما يميّز أسلوب ليندمان وفرقتيه، تناولهم تلك الحقول الدلاليّة الخاصة بالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة بشكل بالغ الفجاجة والمباشرة. ويمكن القول إن هناك نوعاً من العالم الجمالي الليندماني، يمكن استقراء رموزه ودلالاته من خلال مشاهدة أفلام موسيقاه والاستماع إلى كلماتها.

ويشتمل هذا العالم الجمالي، وبالذات في الأعمال التي تتناول الجنس، على الاحتفاء بالفحولة والفانتازيا الذكريّة عن الأعضاء الأنثوية. ويراوح العنف فيها من الذكوري المألوف اجتماعيّاً إلى الساديّة. ويمكن أن نذكر مثالاً على هذا العالم الجمالي الليندماني أغنيتي Dicke Titen وPussy مع فرقة "رامشتاين"، وأغنية Platz Eins. الأخيرة هي عمل فردي لليندمان. والمقطع المرئي لهذه الأغنية الأخيرة، ليس أقلّ من فيلم إباحي يتخلّله بعض اللوحات الفنّيّة، ونعني بذلك أنّه فيلم إباحي حقيقي وليس بالمعنى المجازي أو الفنّي الصرف. وقد مثّل في هذا الفيلم -إضافة إلى ليندمان نفسه- ممثلون إباحيون محترفون، ونساء غير محترفات في المجال الإباحي.

إضافة إلى كل هذه الأعمال الفنية، حضر ليندمان إلى حفل توقيع مجموعته الشعرية، "سكّين"، الذي أقيم في موسكو عام 2018 بشكل أدائي وليس ببساطة حضور شخصه. فقد صحبته طوال توقيع الكتاب امرأة تتقمّص شخصيّة حيوان أليف مُطيَّف على نمط العبوديّة والسيطرة والامتثال والمازوشيّة Bondage Domination Submission and Masochism (BDSM). وفي هذه الحالة الأخيرة، امتدّ عالم الجمال الليندماني من الفن والمخيّلة، ليصل الواقع الاجتماعي، فتطابق الفنان مع الشخص.

بالمحصّلة، إن العالم الجمالي الليندماني ينطوي على الدلالات والحقول الجمالية التقليدية عن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. دفع ليندمان بهذه الدلالات إلى أقصاها في إطار فني معاصر هو الروك الصاخب. لكن للمفارقة، ونظراً إلى أن ليندمان وجمهوره هما بالأساس من ألمانيا، أحد أكثر المجتمعات مساواة بين الرجل والمرأة قانونيّاً واجتماعيّاً، فما معنى أن يكرّس ليندمان الألماني الفحولة علناً وبأكثر أشكالها الجنسيّة تطرّفاً، أمام الجمهور الألماني بالدرجة الأولى؟

هناك فرق إرشاد تجول في حفلات "رامشتاين" لتأمين سلامة النساء

وصولاً إلى النسبيّة الاجتماعيّة

في الواقع، إن كانت المساواة بين الجنسين مضمونة قانونيّاً وقوية اجتماعياً في ألمانيا، فللحرّية الفردية هناك هامش عريض أيضاً على المستويين القانوني والاجتماعي. فالحرية الفردية والمساواة بين الجنسين أمران مرتبطان بعضهما ببعض. حرّيّة الفنّان نوع من الحرّيّة الفردية. ولذلك، حتى لو بدت الحرّية الفرديّة في الفن مفهوماً مطلقاً، إلا أنها فعلياً مرتبطة بالمؤسسات القانونيّة والبنى الاجتماعيّة قبل أيّ شيء آخر.

ومع أنّ العالم الجمالي الليندماني يشتمل على استخدام الجمالية التقليدية حول الجنسين، فهو -للمفارقة- لا يتساوى مثلاً مع الأغاني الشعبية الماجنة الموجودة في مجتمع أكثر تقليدياً، مثل الموسيقى الشعبية ذات المحتوى الجنسي في أوروبا القرن السادس عشر. السبب في ذلك أن العالم الجمالي الليندماني مستقل بدرجة معتبرة عن التركيبة الاجتماعية التقدّميّة الفعليّة التي ينتمي إليها، أي تلك الموجودة في ألمانيا.

بعبارة أخرى، هناك فرق بين الجماليات المتأتيّة عن المخزون الاجتماعي التاريخي عن المرأة والرجل، وبين الذكوريّة الفعليّة الموجودة في أواصر المجتمع الأساسي ومؤسساته ويوميّاته. فشتّان ما بين فنان يكتب عن فانتازيا الفحولة الساديّة في مجتمع ألماني واقعه هو على النقيض تماماً من ذلك، فيه مساواة متقدّمة، وبين رجال يتبوأون أركان المؤسسات القانونية والسياسيّة في بلد كلبنان؛ تركيبته الاجتماعيّة الفعليّة مبنيّة على الأعراف والأبوية واللامساواة بين الرجل والمرأة بصفتها فضيلة، حيث يمكن لهؤلاء الرجال فعلاً أن يحقّقوا فانتازياهم ويضعوا واقيات ذكريّة مستعملة في مكتب نائبة، كما حصل بالفعل.

وللمفارقة، فإن توقيع كتاب ليندمان الذي تضمّن امرأة/حيواناً أليفاً، أو كما يسمّى بالإنكليزية Pet، حصل في موسكو حصراً، ولم يحصل مثيل له في ألمانيا قَطّ. أضف إلى ذلك، فإن من كان مسؤولاً عن إدارة اختيار واستدراج نساء من جمهور رامشتاين إلى الكواليس هو -بحسب مجلّة دير شبيغل- امرأة روسيّة تعمل مع ليندمان. وكذلك، فإن كل النساء غير المحترفات اللواتي مثّلن في فيلم ليندمان الإباحي، هن روسيّات حصراً.

تكرّس أعمال ليندمان المدلولات الجماليّة المتعلّقة بامتثال المرأة جنسيّاً للرجل

لعل هذا يشير إلى أن الجو العام في موسكو، قد يمثّل فضاءً أكثر ارتخاءً لأعمال ليندمان الأكثر تطرّفاً، وأن أمراً مماثلاً ربّما ما كان ليمرّ مرور الكرام في ألمانيا. كل هذا يطرح مسألتين تستحقان البحث المعمّق، ألا وهما امتداد شبكة العلاقات المهنيّة لليندمان في روسيا، والمرونة التي تتمتع بها الحريّة الفنية نسبة إلى الإطار الاجتماعي الذي توجد فيه.

موقف المستمع-المشاهد

نظراً لأن الحقول الدلاليّة التي ترتبط بالجنس والعلاقة "امرأة-رجل" تأتي من المجتمع نفسه، فإن الدلالات الرمزية في أداء ليندمان، وإن كانت لا تمسّ المكانة الاجتماعيّة للمرأة مباشرةً، إلا أنها تكرّس المدلولات الجماليّة المتعلّقة بامتثال المرأة جنسيّاً للرجل، لا بل تعمل على تعنيفها، وهو نوع من التصغير الرمزي للمرأة، وللمرأة المعاصرة بالذات. وعليه، لا يمكن إنكار فجاجة أسلوب ليندمان وقدرته على صدم المستمع-المشاهد. ومن المفهوم أن يكون هناك ردود فعل سلبيّة على أسلوبه الفنّي.

لكن الحل الوحيد أمام هذا الأداء الفنّي الصادم، ممارسة المستمع-المشاهد حرّيته كذلك. فإن بدت أعمال ليندمان مستفزّة، فللمستمع الحرّيّة بعدم تقبّل هذه الأعمال، بل باعتبار أن الدلالات الجماليّة الليندمانيّة أمر يمكن نقاشه والاعتراض عليه. هكذا، فإن حريّة المستمع-المشاهد تتساوى مع حرّيّة ليندمان في أدائه.

ثنائي لا ثنائيّة

أغلب الآراء التي جرّمت ليندمان، قامت بذلك انطلاقاً من أنه رجل نافذ وناجح عالميّاً يمكنه أن يخدع القضاء، وأن النساء اللواتي عنّفهن هنّ مجرّد ضحايا للتركيبة التاريخية الذكورية للمجتمعات. وبرأينا، موقف كهذا هو موقف خاطئ. 
إن نظرة كهذه منبثقة من الوقوع في ذات الفخ الذي نصبه ليندمان لنا عندما كرّس في فنّه نظرة إلى العالم تنطوي على ثنائيّة الرجل-المرأة. فإن كان العالم الاجتماعي مركّب أساساً من ثنائي بيولوجي، هو المرأة والرجل، فهذا لا يعني أن النظر إلى العالم الاجتماعي فقط عبر ثنائيّة رجل-امرأة يصح... ولا حتى من أجل استنكار الجماليّة الليندمانيّة.

من جهة، إن نظرة كهذه هي نظرة تراجيدية إلى العالم. وبالرغم أن هذه النظرة قد تبدو مقنعة، إلا أنها تخسر بسهولة أمام الواقع الاجتماعي عندما نرى أنه ما كان لأعمال ليندمان أن تبصر النور لولا النساء اللواتي شاركن فيها. ونذكر مثالاً على ذلك، النساء اللواتي شاركن في الفيلم الإباحي الذي ذكرناه كما المرأة-الحيوان الأليف.

ومن جهة أخرى، فلا يمكن بشكل عام الاستغناء عن القضاء في قضيّة ليندمان أو القضايا المشابهة، وبالذات إن كان هذا القضاء فاعلاً كالقضاء الألماني. وذلك ليس لأن على المرء أن يثق دائماً بالقضاء، بل لأن القضاء ليس جزءاً من مسرحية تراجيدية حيث الرجال يسيطرون على العالم، بل هو مؤسّسة دورها المبدأي صيانة حقوق وحرّيّة الأفراد. يمكن انتقاد قرار هذه المؤسسة على غرار ما يمكن انتقاد المؤسسات الدينية والسياسية. لكن لا يمكن التغاضي عن دورها الضروري في إرساء النظام الاجتماعي.

في المحصّلة، إن على البت بقضيّة ليندمان انتظار الحكم القضائي، وهو -إن نظرنا إلى القضايا الكبرى المشابهة مثلاً قضيّة جوني ديب- قد تتّخذ سنين طويلة. وبالنهاية، تنطوي قضيّة ليندمان على تهم يجب بالطبع التحقيق فيها بكل تأكيد، لكنّها لا تشتمل على حرب كونيّة بين الرجال النافذين وكل ضحايا التحرش والاغتصاب في العالم. وإلى جانب كل المسائل التحليلية التي عرضناها أعلاه، فأهم ما تشتمل عليه هذه القضيّة بالذات هي برأينا علاقة المخزون الدلالي الاجتماعي عن الرجل والمرأة والجنس، بالعلاقات الاجتماعية القائمة فعليّاً بين المرأة والرجل، وهي مسألة كبرى تبقى مفتوحة للتأمل والدراسة.

المساهمون