ليس من السهل أن يحتل اسم موسيقي ما، المراتب الأولى في لوائح بيلبورد لمدة خمسة عقود من الزمن، وأن يستمر في تصدرها وهو في أواخر ثمانينياته. أما أن يبرز نجم في زمن ضم أسماءً مثل فرانك سيناترا وجودي غارلاند وراي تشارلز ودين مارتن، فتلك مهمة غاية في الصعوبة، لم ينجح في تحقيقها إلا قلائل فقط، ومنهم الموسيقي والمغني الأميركي توني بينيت (1926 - 2023)، الذي رحل أخيراً متاثراً بمضاعفات مرض الزهايمر، عن 96 عاماً.
حصد بينيت 18 جائزة غرامي وجائزتي إيمي، إضافة إلى عدد كبير من الإنجازات الأخرى، من بينها بيع عدد هائل من الألبومات الموسيقية، ما يقارب خمسين مليون نسخة، إلى حد أن فرانك سيناترا وصفه بالفنان "الأكثر مبيعاً" و"صوت جيل" تميز في حقبة صاخبة من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
حطم بينيت الرقم القياسي العالمي لموسوعة غينيس لأكبر شخص معمر يُصدر ألبوماً من مادة جديدة وهو في سنّ الخامسة والتسعين عاماً و60 يوماً. وقد أُزيح الستار عن تمثال له يبلغ ارتفاعه ثمانية أقدام أمام فندق فيرمونت في سان فرانسيسكو، حيث أدى أغنيته الشهيرة I Left My Heart In San Francisco (تركت قلبي في سان فرانسيكسو) لأول مرة، وهو من أكثر الفنانين الشعبيين المحبوبين في أميركا؛ أمر لطالما أسعد المغني الذي تمنى أن يتذكره جمهوره "كشخص لطيف لا أكثر"، بعد رحيله.
خلف تلك البدلة الأنيقة التي عرفها جيله جيداً، إلى جانب تسريحة الشعر الفارقة والحضور الماتشاوي الذي وسم أداءات تلك المرحلة، كان لبينيت مسيرة من شوك في مدينته نيويورك. فهو ابن مرحلة الكساد خلال رئاسة هربرت هوفر، وسليل عائلة فقيرة من أصول إيطالية مهاجرة، إذ كان أنتوني دومينيك بينيديتو، وهو الاسم الذي أعطي له عند الولادة، محظوظاً بما يكفي لأن يكون الطفل الأول من عائلته ليولد في مستشفى في عام 1926. كان والده جون بينيديتو مريضاً وغير قادر على العمل، ما ضاعف المسؤوليات على أمه الخياطة آنا، خصوصاً بعد رحيل الأب باكراً، إذ لم يكن طوني قد بلغ العاشرة من عمره بعد.
بدأ بينيت الغناء من أجل المال وهو في سن 13 عاماً، وقد أدى دور النادل المغني في العديد من المطاعم الإيطالية في كوينز. ولذات الأسباب القاهرة اضطر إلى ترك الدراسة في سن الـ16، ليعمل في عديد من الوظائف منخفضة الأجر، ومنها على آلة ناسخة، أو نادلاً في المطاعم والملاهي الليلية. اقتيد بينيت إلى الجيش الأميركي وهو في السابعة عشرة من عمره فقط، ليمضي سنوات عدة في الصف الأول لما وصفه لاحقاً بـ "مقعد الصف الأمامي في الجحيم". استمر في الأداء وتخديم الطاولات بعد عودته من الحرب، إلى أن ساقته الصدف يوماً لأن يوقع عقده الأول مع شركة كولومبيا للتسجيلات.
أنتج بينيت أولى أغانيه الناجحة مع شركة كولومبيا Because of You عام 1951، تبعها عديد من الأغاني الشعبية، وصولاً إلى اعتناق نمط الجاز الغنائي مع ألبومات أواخر الخمسينيات The Beat of My Heart وStrike Up the Band. لكن الأغنية التي جلبت له الشهرة والنجاح الكبيرين، وأرست صورته كفنان أكبر من الحياة، كانت I Left My Heart in San Francisco، وهي أول أغنية له تحتل قائمة الأغاني العشر الأوائل في "بيلبورد" عام 1962. لأسباب إنتاجية، اضطر بينيت إلى أن يعيد إحياء مسيرته المهنية في التسعينيات، ومرة أخرى في الألفية الجديدة، وقد أنتج خلال تلك المدة عدداً من الألبومات، ونظم كثيراً من التسجيلات الثنائية والحفلات المباشرة حول العالم.
ظل بينيت نشيطاً حتى في ثمانينياته، فحافظ على بنيته الجسدية بفضل لعب الرياضة ثلاث مرات في الأسبوع، وأمضى وقتاً طويلاً في تحسين أسلوبه في الرسم، فهو يعرف بكونه رساماً شغوفاً، درس علم التشريح حتى يعطي الأشكال المرسومة بعداً واقعياً.
أما موسيقياً، فصرّح مرة بأنه لا يزال أمامه الكثير ليتعلمه؛ "الموسيقى لا تنتهي أبداً". ومع أنه كان يواجه صعوبة خالصة في قراءة النوتة الموسيقية بسبب إجهاد عينيه، إلا أنه لم يتوقف يوماً عن المحاولة. نراه دائماً في جلسات التسجيل الموسيقية مسمراً إلى جانب حامل النوتات الموسيقية، يقلب الصفحات ويتتبع الأسطر المتدرجة التي تحمل علامات اللحن السلس، وكأنه لم يغنِّ تلك الأغنية أو هذه آلاف المرات وحفظها ظهراً عن قلب.
بعقلية "الطالب الأبدي" تلك، أكمل بينيت مسيرته الفنية، متكئاً على جمهوره الذي لطالما اعتبره بينيت أفضل معلم يمكن أن يحصل عليه أي مؤد، حتى إنه توقف نهائياً عن أداء إحدى الأغنيات عن روعة عودة الجندي إلى البيت بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب انتقاد جمهوره مرة لمحتواها على الخشبة. فهم بينيت تلك المشاعر، خصوصاً أنه كان جندياً سابقاً خلال الحرب ذاتها، وواحداً من أشد المناهضين لفكرة الحروب بعدها، ومؤيداً لحركة الحقوق المدنية.
ظل بينيت مرناً في أفكاره وتطلعاته الفنية، لكنه كان حريصاً على التأكيد في مقابلة له عام 2010 أنه لا يبقى معاصراً لإرضاء الشركات الكبيرة، كما أنه لا يتابع أحدث الموضات، ومن المؤكد أنه لن يغني أبداً أغنية مكتوبة بشكل سيئ، خصوصاً مع شركات يتهمها من دون مواربة "ببيع القمامة"، منتقداً الجانب الربحي لشركات الصناعات الترفيهية. "يغرقونك بالإعلانات ويقولون إن عليك شراء شيء ما لأنه الموجود في الوقت الحالي"، يوضح بينيت، ويضيف: "تشتري شيئاً وبعد ستة أشهر تتساءل: لم أعجبك ذلك؟".
ذلك الموقف الصارم والنادر من رجل في غاية اللطف، لم يمتد قطّ ليشمل جيل MTV، إذ يتميز بينيت عن غيره من موسيقيي جيله، بحبه لجيل الشباب الصاعدين من المغنين والموسيقيين، وامتداحه لتلك المواهب الشبابية علناً، وخصوصاً بوب ديلان، وتعاونه مع فنانين معاصرين مثل بونو وإلتون جون وبول مكارتني وستيفي وندر، كما أعلن حبه لشغف وعاطفة فنانة البوب الكندية كيه دي لانغ، لكنه وضع مغني الجاز الحائز جائزة جونو في كولومبيا البريطانية، مايكل بوبليه، في فئة أخرى تماماً، فأكد مرات عديدة إيمانه الكلي بموهبة الفنان الكندي الصاعد الذي نجح في استلهام شيء من كل فنان سبقه.
فعل بينيت ذات الشيء حين التفت إلى المواهب الشابة التي جاءت بعده، حتى إنه أنجز عديداً من الثنائيات مع فنانين معاصرين في مرحلة متأخرة من حياته، أشهرها مع أيمي واينهاوس وكيه دي لانغ، وصولاً إلى ليدي غاغا التي توجتها مجلة رولينغ ستون ملكة للبوب. اجتذب ذلك الأداء الأخير لبينيت إشادات عديدة لكلا الفنانين منذ تعاونهما الأول في ألبوم Cheek to Cheek الصادر عام 2014، وقد تضمن الألبوم موسيقى الجاز لكول بورتر وإيرفينغ برلين ومعاصريهما. وأتم الفنانان معاً جولة للترويج للألبوم طوال عامي 2014 و2015. ثم أصدرا الألبوم الثاني Love for Sale في عام 2021، الذي اعتبرته ليدي غاغا واحداً من الأسباب التي اجتذبتها من جديد إلى عالم الموسيقى في كل مرة ابتعدت عنه فيها.
أسباب كثيرة جعلت هذه التجربة واحدة من أكثر التجارب إثارة للاهتمام في تاريخ بينيت وغاغا الموسيقي، ليس لأن بينيت كان في الـ88 وهي في الـ29 فحسب، بل لأنهما يعودان إلى خلفيتين موسيقيتين متباعدتين تماماً، لو أن كليهما كانا فنانين رائدين ونموذجين ناجحين في اختبار الزمن.
وفيما صنع بينيت أغاني كلاسيكية تتجاوز العصر وتسافر عبر الزمن، مثلت غاغا واحدة من أكثر التجارب تقدمية وإشكالية في الألفية. كان لذلك اللقاء العابر للأجيال تأثير واسع في الموسيقى ذاتها، وفي التبادل العاطفي والفكري بين فنانين تفصل بينهما فجوة 60 عاماً من الموسيقى والأداء. وُصفت حفلاتهما الحية بأداءات "من الشباب إلى الذين ما زالت قلوبهم شابة"، وتميزت بأداء تلقائي وعفوي خارج القواعد الصارمة لغناء الجاز.
وصفت غاغا Cheek to Cheek "بأهم ألبوم في حياتها المهنية"، خصوصاً أنها أنجزته مع فنان لم يكن يريد سوى صوتها وصداقتها. في ذات الوقت الذي كانت تتعافى فيه من جراحة الورك التي أجرتها سابقاً. "لم يقل لي بينيت أبداً عليكِ أن تخلعي كل الملابس المجنونة وتغني فقط"، شرحت غاغا، مضيفةً: "بل قال لي أن أكون كما أنا".
شُخص بينيت بمرض الزهايمر في عام 2016، لكنه استمر في الأداء والتسجيل حتى عام 2021. امتدت حياته لأكثر من تسعين عاماً، تخللها العمل السياسي والنضال الإنساني وكثير من الموسيقى في كل أشكالها وأنماطها. وعلى الرغم من مسيرته الحافلة وتجاربه الطويلة والمليئة بالمصاعب، لم ينطلق بينيت في تفاعلاته مع الجيل الأصغر من موقع الأكثر حكمة ومعرفة، بل سعى دوماً للوقوف في صف الشباب اليافع، متجاوزاً هوة الزمن.