توم كروز مُكرّماً في "كانّ 75": جسدٌ في سباقٍ محمومٍ مع الزمن

27 مايو 2022
توم كروز حاملاً "سعفة ذهبية شرفية" في "صالة لوميير" في "كانّ 75" (أندرياس رنتز/ Getty)
+ الخط -

 

صفّق الجمهور طويلاً، وبحرارة، لتوم كروز، بعد عرض فيلمه الجديد "توب غان: مافريك" في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، خاصّة حين فاجأ تييري فريمو (المندوب العام) وبيار ليسكور (الرئيس) الجميع، بمن فيهم الممثل نفسه، الذي سيبلغ 60 عاماً في 3 يوليو/ تموز 2022، بمنحه "سعفة شرفية"، تكريماً لـ40 عاماً، طبع فيها السينما بأفلامٍ، جلّها مُهمّة ومؤثّرة، مثّل فيها بإدارة مخرجين كبار، كأوليفر ستون ومارتن سكورسيزي وفرنسيس فورد كوبولا وستانلي كوبريك ومايكل مانّ.

ينتمي كروز إلى فئة الممثلين المغبونين إعلامياً، فقط لأنّه، كبراد بيت وبِن آفلِك، بدأ مساره بتأدية دور شاب وسيم، فرسخت هذه الصورة في المخيّلة الشعبية عنه، ولم تتغيّر، رغم أنّه أبان بعدها عن براعةٍ في تأدية أدوارٍ تركيبيةٍ عدّة.

يكفي اضطلاعه بدور فتى غنيّ مدلّل، يتعرّض لحادث سير يُشوِّه وجهه، ويصبح بالكاد قابلاً لمعرفته، في رائعة كاميرون كرو، "فانيلا سكاي" (2001)، المقتبسة عن "أغلق عينيك" (1997)، لأليخاندرو أمينابار. عنوانٌ يُذكّر بتحفة أخرى، دفع فيها كروز نزعةَ التدمير إلى أقصاها، في بُعدها النفسيّ، حين مثّل مع زوجته السابقة نيكول كيدمان في آخر فيلمٍ لستانلي كوبريك، "أعينٌ مغلقة باتّساع" (1999)، المقتبس عن "قصّة الحلم" (1929)، لآرثر شنتزلر، حول سطوة الحلم والاستيهامات الجنسية، وإسقاطاتها الفرويدية على الحياة الزوجية، ما أدّى إلى العصفِ بعلاقة الزوج ـ النجم، فانفصل أحدهما عن الآخر، بعد أشهر قليلة على إطلاق عروضه.

ننسى أيضاً كم أنّ توم كروز شديد الانتقاء في اختياراته، وكم أنّ عدد أفلامه، كممثّل، يكاد يتجاوز عدد الأعوام التي أمضاها في السينما، وكم أنّه لم يتردّد في قبول أدوارٍ غير بديهيةٍ، طبعها بأداء كبيرٍ وراسخٍ، كما فعل في "حوار مع مصّاص دماء" (1994) لنِلْ جوردان، حيث تظهر ثيمة الافتتان بالخلود، التي لن تكفّ عن العودة في أفلامه.

لكنّ الطابع الأبرز في اختياراته يكمن في تأدية أدوارٍ لا تستحوذ على الاهتمام منذ الوهلة الأولى، بل تشتغل بنوعٍ من الرهافة، وتمهّد الطريق بسخاء لبروز أدوار أخرى، كالحال في "رجل المطر (Rain Man)" لباري ليفنسون (1988)، حين خدمت براعته في تقمّص الشاب السطحي، المفتون بالمظاهر والمال، المجالَ لتفجّر موهبة داستن هوفمان، الذي كان في أوج عطائه في دور الأخ المتوحّد، الذي لا يأبه لثروة الوالد، وتستغرقه التفاصيل الصغيرة. الأشياء بأضدادها تُعرف، كما يُقال.

رغم تنويعه بين الأفلام المتوسطة والمستقلّة ـ ممثّلاً دوره المتفرّد كمعلّم روحي، متخصّص في التحفيز، في عمل بول توماس أندرسون الكورالي "ماغنوليا" (1999)، وأدواراً أخرى ذات موازنة كبيرة ـ لم ينجذب توم كروز أبداً لبريق الأفلام السهلة، وموجة أفلام الأبطال الخارقين. حتّى أفلام الحركة، التي شارك فيها، تميّزت بنوعٍ من التطلّب والمجازفة في الشكل، كحال المشروع الذي أضحى المُعبّر عن بصمته، أداءً وإنتاجاً، حين مثّل، عام 1996، دور إيثان هَنت في "مهمّة مستحيلة" (العنوان يلخص كلّ شيء)، بإدارة كبير آخر هو براين دي بالما، ليفسح نجاح الفيلم الباب أمام "ساغا" من 6 أجزاء، شهدت على تقدّمه في العمر، من دون أن ينال ذلك من إصراره على تأدية مَشاهد المغامرة والحركة الخطرة بنفسه، في الجزء السادس (2018) لكريستوفر ماكُّوري، كما في الجزء الأول.

 

 

طيلة مساره، لم يكفّ توم كروز عن السعي إلى إثبات أنّه يستطيع فعل كلّ شيء، من الثريلر السيكولوجي إلى الحركة الصرفة، مروراً بأفلام الخيال العلمي، كـ"حافة الغد" (2014)، إبداع دوغ ليمان، الذي يُقدّم تنويعةً مثيرةً على موضوع العود الأبدي، أو الحلقة الزمنية مفرغة الحاضر في "يوم غراندهوغ"، أو "حرب العوالم" (2005) لستيفن سبيلبرغ، الذي نال عنه أجراً قياسياً بلغ 100 مليون دولار أميركي، وخاصة "ماينوريتي ريبوت" (2002) للمخرج نفسه، الذي منحه أحد أفضل أدواره، وأكثرها خلوداً، لأنّها تجسّد الخليط الأكمل بين السيكولوجيا والحركة، من خلال مأزق الضابط جون أندرت، الموزع بين التزاماته المهنية، ونزعة الانتقام الفردانية لاختطاف ابنه، وسباقٍ محمومٍ مع الزمن، يكاد يكون اللازمة التي حضرت بصفة مذهلة في أغلب أفلام كروز. سباقٌ مع عقارب الساعة وضدّها، على الدراجات النارية والسيارات والطائرات النفاثة، وحتى الطوافات المستقبَلية، في البحر والأرض والجوّ.

تبقى الكوميديا الوتر الأضعف في روزنامة كروز، مع أدوار قليلة، أهمها دور المنتج البدين، المناقض لهيئة الممثّل، في "الرّعد الاستوائي" (2008) لبن ستيلر، على عكس ابن جيله براد بيت، الذي جعل من الكوميديا سبيلاً إلى التحدّي وتجديد مساره. كأنّ كروز يأخذ السينما بجدية أكثر من اللازم، وما تصريحه برفض عرض أفلامه في منصّات العرض التدفّقي، في الـ"ماستر كلاس" (صباح عرض فيلمه في "كانّ 75")، سوى دليل عن هذا التمسّك الطهراني بجوهر السينما. موقفٌ ثقيلٌ من دون شكّ في النقاش المهمّ عن مستقبل السينما، الذي ستكون "كانّ" مسرحاً له هذا العام.

لطالما نظرت أكاديمية الـ"أوسكار" بفوقية لتوم كروز، رغم أنّه رُشّح لنيل التمثال الصغير 3 مرّات، وربما حُرم منها، رغم استحقاقه إياها عن دوريه، على الأقلّ، في الدراما الرياضية "جيري ماغواير" (1996) لكرو أيضاً، وفيلم المحاكمة المغلق "رجال فاضلون قليلون" (1992) لروب راينر. لكنه مهّد الطريق، مرة أخرى، لنيل كوبا غودينغ جونيور "أوسكار" أفضل ممثّل مساعد عن الأوّل، وخدم تفجّر عبقرية جاك نيكلسون في الثاني.

لكلّ هذا، وأكثر، كانت مؤثّرة رؤية "الفتى الذي لا يشيخ" يرفع "السعفة الذهبية" مساء 18 مايو/ أيار 2022 في "صالة لوميير"، أمام هتافات وتصفيق حارّ في "كانّ 75"، بيدين مجعّدتين، وشعر مصفوف بالطريقة الشبابية نفسها، ومحيّا مُشرقٍ بالامتنان، رغم أنّ السنين انتهت بحفر أثارها فيه.

هذا السباق بين الزمن والجسد، وتفاعل كلّ منهما مع الآخر، ونسبية هذا التفاعل، أو ربما سحره ـ لقب "مافريك" في "توب غان" (1986) لتوني سكوت ليس صدفةً ـ المحفوف باللعنة، كما في "دوريان غراي" لأوسكار وايلد، ربما تكون كلّها أهمّ النوازع التي شغلت بال هذا النّجم الفائق، وحكمت اختياراته.

المساهمون