يُعرف التلفزيون بكونه الوسيط الأكثر تشعباً وانتشاراً في العالم، فقد خصّته مدرسة فرانكفورت بنقد لاذع، في إطار ما سُمّي فلسفياً بأحوال "الصناعة الثقافيّة"، إذْ قادت شعبية هذا الجهاز إلى أنْ يغدو أحد أهم روافد صناعة الحداثة داخل المجتمعات المعاصرة، لا لأنّه يقوم على مختلف أشكال الابتكار والإبداع والتوليد، ولكن بحكم سهولة انتشاره واختراقه واقع الناس داخل بيوتهم واجتماعهم وحميميتهم.
لا يطلب التلفزيون الإذن من أحد، كما تفعل السينما عن طريق تذاكر صالات العرض، بقدر ما يخترق بعنف مُخيّلتهم وأحلامهم، ويفرض عليها نظماً ومعتقدات وأساليب وأفكاراً ورؤى، تُصبح بمثابة يقينيات مُميتة رغم سطحيتها، إذْ يُغيّر أفكارهم عن ذواتهم وأمزجتهم، ويجعلهم يتطلّعون إلى جعل أنفسهم عبارة عن كليشيهات بصريّة ومادة إشهارية، لتحقيق نوع من الشهرة والنجومية، من خلال مشاركتهم في برامج "تلفزيونات الواقع"، كنوع من الاستعراض البصريّ، الذي يقوم على إذكاء وترسيخ فكرة النجومية، كحق من حقوق حفظ كرامة الناس داخل الزمن المعاصر.
في المجتمعات التقليدية، أصبح الجمهور يتطلّع إلى النجومية أكثر من الكرامة، ما جعلنا نصل إلى مرحلة المُواطن الأيقوني الذي يُقدّم نفسه كبطل يُخلّص الناس من بؤسهم وشقائهم وأوجاعهم، وهو يُزودهم داخل تلفزيونات الواقع بسيل من المَشاهد الكوميدية الساخرة من حياتهم.
ورغم ما يدّعيه هذا النمط البصريّ "الواقعي" في كونه ينقل أحوال المجتمعات الراهنة ووقائعها صوب الشاشة الصغيرة، بكل حمولاتها الثقافيّة والسياسية والاجتماعية، فإنّ المُتابع لحيثيات اشتغال هذا الوسيط سيفطن إلى نوع من انتقائية تطبع برامجه اللاواقعية داخل مجتمع مغربي تقليدي، وتجعله مجرّد وسيلة بصريّة لتضليل الرأي العام وإمطاره بركام التفاهات التلفزيونية المُقنّنة عمّا يحدث داخل عائلات وتجمّعات وشوارع ومقاهٍ وحانات، بعيداً عن السلطة وتنانينها وحيتانها التي تظلّ ضرباً من اللامفكّر فيه داخل تلفزيون الواقع.
بات تلفزيون الواقع وسيلة ناجعة من وسائل السُلطة، إذْ يتم تمويه الناس وسحبهم من القضايا الحقيقية عن طريق فيديوهات الرياضة والطبخ والمعجزات والأشباح والفضائح. فقد غدا ورقة رابحة للكثير من محطّات التلفزيونية، أضحت تُراهن على هذا النوع من البرامج، لتحقيق نسب مشاهدات عالية، من دون أيّ مجهود يُذكر؛ لأنّ هذا النوع من البرامج الذي لا يتطلب أيّ تحضير مُسبق فقط ترك المشاركين/ المُواطنين داخل بلاتوهات التصوير يثرثرون في موضوع اجتماعي أو جنسي أو ديني، لتحقيق مبتغى المخرج ومحاولة خلق نوع من الصدمة لدى المُشاهد، التي تستند إلى تقديم فضائح اجتماعية على أساس أنّها حقائق، رغم أنّ الفضائح توجد داخل قبّة البرلمان، حيث فقهاء السياسة ينهبون أموال البلد.
ومع ذلك، فإنّ تلفزيونات الواقع غير قادرة على اقتحام قبّة البرلمان السوريالية، ونقل البشاعة الحقيقية الموجودة هناك، إذ الناس نيام، وآخرون يتقافزون أمام ممرات "البوفيه" عن الحلوى، كما تُظهر ذلك فيديوهات انتشرت داخل وسائل التواصل الاجتماعي قبل أشهر. ألا تستحق هذه المَشاهد السوريالية أنْ تنقلها تلفزيونات الواقع في المغرب، وتُقدّمها للناس على شكل قصص وحكايات، تجعلهم يُعبّرون عن آرائهم، وتُغذي وجدانهم عن مصير البلد سياسياً، بدلاً من نقل آفات الإنسان البسيط وفقره ومشاكله الاجتماعية والنفسية التي لا تنتهي؟
ونظراً إلى الرهان التجاري على برامج تلفزيون الواقع، يتم في أكثر من مرّة فبركة المنتوج البصري، على أساس أنّه حقيقة، إذْ يتدخل مخرج الحلقة لكتابة حوارات ونسج قصص مزورة، وخلق وشائج علاقات مرتبكة، بين الأفراد لدغدغة مَشاهد الرأي العام وإقحامهم في البرنامج، انطلاقاً من مشاركات واتصالات وتعليقات، بطريقة يغدو فيها البرنامج مسرحية درامية يكتبها المخرج ويلعب أدوارها لا شخصيات الضيوف، ولكن المجتمع المغربي بأكمله. لكن يبقى الهدف الأساس لهذه المسرحية هو تأجيج الفرجة وتمريغ كرامة الناس على التلفزيون، وتحقيق طفرة تجارية، تجعل تلفزيونات الواقع تُحقّق عائدات خيالية.
يظلّ النموذج الكبير لهذه "الطحالب التلفزيونية" في ما يُعرف مغربيّاً بـ "ميكرو طروطوار"، حيث تعمد بعض المحطات التلفزيونية إلى الخروج إلى الشارع المغربي، وطرح أسئلة سطحية عن الناس حول أحوال المناخ، والفضائح، والتحوّل الجنسي، وأحوال العيد ورمضان، إذْ يتم في هذه البرامج استغلال المواطن على خلفية بساطته أو جهله ببعض قضايا تطاول المجتمع، ويتم تقديمها على أساس أنّها آراء نابعة من المجتمع المغربي.
المُثير أحياناً هو أنّ هذه الآراء الشخصية تتحوّل فيديوهاتها داخل وسائل التواصل الاجتماعي إلى مادة كوميدية تسخر من المواطن بسبب لهجته أو ثقافته أو طريقته في الكلام. والحقيقة أنّ بعض الصحافيين يتعمدون ذلك، إذْ يخترقون حميمية الناس داخل المقاهي والأسواق الشعبية وإحراجهم أمام الناس بطرح أسئلة اجتماعية عن حياتهم الخاصّة.
لم يعُد المجتمع المغربي في حاجة إلى تلفزيونات الواقع البليدة، التي تُتاجر في آلام المغاربة وبؤسهم وشقائهم وفقرهم، وتُمرّغ كرامتهم على الأرض في وجه عائلاتهم، باسم برامج ثقافة ومجتمعية ومدنية، أمام سلطة تزداد فظاعة وتفسّحاً وفتكاً وتغطرساً داخل المجتمع المغربي، بعيداً عن أقلام الإعلام وكاميرا تلفزيونات الواقع وصناعتها المرتبكة.