يراهن قطاع واسع من الجمهور السوري على قدرة الدراما المحلية على العودة للإشراق مجدداً. لكنّ الأمنيات لا تتجاور مع الواقع في ظل غياب قطاع إنتاجي درامي متماسك، والتأثير البالغ للصراع السوري على البنية التحتية والكوادر البشرية التي استنزفتها الحرب بالهجرة خارج الملعب الدرامي المحلي.
كلّ ذلك فرض نفسه كعامل مؤثر على فكرة إنتاج الدراما وتحويلها من كونها صناعة مؤثرة قائمة على استقاء مفرداتها من الواقع المعيش يومياً، إلى صناعة قائمة تحت الطلب.
وهذا ما حوّل دور كل من المنتج والكاتب والمخرج، وصولاً إلى الممثل، إلى أدوار تنفيذية يرى أصحابها الفن من منظور تجاري يهدم القيمة الفنية لصناعة الدراما.
المنتج
لطالما كان المنتج السوري حريصاً على الاستثمار في أرض خصبة للكاميرا، عبر جغرافيا واسعة تمتد من الساحل إلى الصحراء، مع تضاريس جبلية مكنّت شركات الإنتاج من تقديم عشرات الأعمال المحلية والعربية داخل الأراضي السورية. لكنّه تحوّل تدريجياً إلى دائرة ضيقة من الجغرافيا تتمثل في دمشق وما حولها، ومن ثمّ العاصمة المركزية فقط، من دون الريف المشتعل بالمعارك والصراعات، وحتى أيضاً باتجاه الأحياء الراقية التي تعبّر عن شريحة ضيقة جداً من المجتمع السوري، وترصد صورة نموذجية زائفة لبلد مهدّم تعتريه النكبات من كل جانب.
تحوّل المنتجون تدريجياً إلى التصوير في دائرة ضيقة من الجغرافيا تتمثل في دمشق وما حولها، ومن ثمّ العاصمة المركزية فقط، من دون الريف المشتعل بالمعارك والصراعات
هذا ما جعل المنتج السوري يقبل تدريجياً أن يختصر المشهد الدرامي في بلده إلى كانتون ضيق يروي فيه قصص الخيانة ومافيات رجال الأعمال تحت سقف النظام، أو ينتقل إلى الحارة الدمشقية، ليعيد مرة تلو الأخرى استهلاك القصص داخلها كنوع درامي قابل للتسويق بسهولة دون عناء ودون ملاحقة أمنية وتضييق من قبل الرقابة.
الكاتب
دور الكاتب الدرامي لا يقل أهمية عن المنتج، كونه صانع اللبنة الأولى للعمل وراسم مسار حكايتها من الألف إلى الياء. إلا أنّ تحوّل مسار الإنتاج الدرامي إلى عدد محدود جداً من أنواع المسلسلات، وضع الكاتب أمام خيارين، إما الغياب حتى تنجلي الظروف الداكنة المحبطة، ويعود للدراما مداها الواسع، أو الحضور من دون هوية عبر نصوص مطلوبة من قبل المنتج، أو التكرار في نسج قوالب معينة لا تمرد يذكر فيها مع مساحات لعب محدودة لخيال الكاتب. وبذلك، بدت النصوص مجتزأة من سياقها الطبيعي، تحاول التشبّه بالواقع وتفشل، بل إنّها تؤذيه عبر إعادة روايته بطريقة مزيفة وتأويله لصالح أجندة معينة.
المخرج
العملية لن تكتمل من دون المخرج، ورغم وجود جيلين من المخرجين السوريين وارتسام ملامح جيل ثالث ناشئ، إلا أنّ حالة التماهي مع السائد باتت تغيّب رؤية قطاع واسع من المخرجين كما تمحي رؤية بعضهم، والتي سبق أن شكلت انتقالاً أثيراً في الدراما السورية، ليقع المخرج السوري اليوم بين خيارين مربكين: إما القبول بدخول ملعب الدراما المشتركة وفي ذلك مجازفة كبيرة بما قدّمه سابقاً بعناية، أو البقاء داخل نطاق الدراما المحلية بما فيها من معوقات على صعيد غياب التمويل، وتأطير الحكايات بقوالب محددة وسقف الرقابة المنخفض وغياب نجوم الصف الأول. فارس على جواد مهجّن لا يشك أحد بقدرات الممثل السوري في لعب الدور وإتقانه وتبنيه.
وقع المخرج السوري اليوم بين خيارين مربكين: إما القبول بدخول ملعب الدراما المشتركة وفي ذلك مجازفة كبيرة بما قدّمه سابقاً بعناية، أو البقاء داخل نطاق الدراما المحلية بما فيها من معوقات على صعيد غياب التمويل
ولكن ما حدث خلال الأعوام الأخيرة، بات يكشف أنّ الممثل السوري نفسه لم يعد متبنياً للدور كما كان من قبل، بل غدا تائهاً في إيجاد البوصلة بين الدراما المحلية المتهالكة، والدراما المشتركة الذائبة في الاستهلاك، والدراما المصرية العصية على الاختراق، ما بعثر جهده الذي كان من الممكن أن يصّب في صالح الصناعة الدرامية ككل، ما يزيد من شهرته كممثل سوري في الدراما المحلية يثبت تفوقه مرة تلو الأخرى ويساهم في تصديرها عربياً.
بذلك تكون الدراما السورية مصابة بإرهاق شديد قبيل بداية الموسم الرمضاني، الذي تحظى فيه أعمال شامية بتسويق كبير وبإنتاجات أضخم، ويغيب النص الاجتماعي المشاكس كما الكوميدي الناقد على حساب حضور عدد كبير من الأبطال ولكن في غير مواقعهم المنتظرة.