أغلب ما نعرفه عمّا يدور في كواليس الإعلام الألماني منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، نعرفه من التسريبات. فليست لدى للصحافيين المعترضين القدرة على الشكوى علانيةً، ولا المؤسسات تقبل التعليق بشكل رسمي على التساؤلات حول انحيازاتها السياسية.
في 28 أكتوبر/ تشرين الأول، نشر الصحافي الألماني طارق باييه عبر حسابه على منصة إكس سلسلة منشورات، تكشف أجزاءً من مذكّرة داخلية أرسلتها إدارة شبكة ARD الألمانية (الهيئة العامة للبث الإذاعي في جمهورية ألمانيا الاتحادية وتضمّ هيئات البث الحكومية وقناة دويتشه فيله)، مع انطلاق العدوان الإسرائيلي، وتحدّد لهم معايير التغطية الصحافية، والتعابير المفترض منهم استخدامها.
المذكّرة أرسلها محرر (بقيت هويته مجهولة) من داخل الشبكة، إلى باييه، وتنص على مجموعة من البنود التي يجب على المحررين الالتزام بها. وتتمحور أغلب التوصيات في الرسالة الإلكترونية حول تبرير العدوان على الفلسطينيين، وتأييد الاحتلال، وذلك من خلال حث المحررين والصحافيين على تفادي استخدام تعبيرات مثل "تصعيد" أو "دوامة العنف"، إلى جانب الإشارة إلى أن قصف الاحتلال هو "على أهداف عسكرية" في محاولة لتبرير سقوط ضحايا مدنيين في غزة، مع التذكير في أي تغطية بأن حركة حماس هي التي بدأت هذه الحرب، من خلال عملية طوفان الأقصى، وأن أي قصف على القطاع هو مجرد رد فعل.
وتحث الرسالة العاملين على التذكير بأن حركة حماس مصنفة إرهابية في أكثر من بلد في العالم، وأنها "لا تفرّق بين الأهداف العسكرية والمدنيين، على عكس الجيش الإسرائيلي". أما عند الحديث عن قتل المدنيين في غزة، فتفضّل الشبكة أن يقر محرروها بذلك، لكن مع التذكير بأن "حماس تستخدمهم كدروع بشرية".
Ich bin an die internen Sprachregelungen gelangt, die Journalistinnen und Journalisten von der ARD (z.B. @tagesschau) für ihre Berichterstattung über Israel und Gaza erhielten. Bereits am 11. Oktober hieß es, man solle von „Angriffen auf militärische Zielen" berichten. Das heißt:… pic.twitter.com/36NvQ9tOqb
— Tarek Baé (@Tarek_Bae) October 28, 2023
المذكرة الداخلية تبعها توزيع الشبكة على صحافييها كتيّبا يتضمّن قائمة المصطلحات التي يجب استخدامها لتغطية العدوان "للاستخدام الداخلي، اعتبارًا من 18/10/2023". 47 صحفة تفصّل فيها ARD كل مصطلح مرتبط بالاحتلال الإسرائيلي وبالقضية الفلسطينية، مع مصادر، وروابط، وشرح، والطريقة التي يفترض استخدامه فيها، مثل: غزة، وحماس، وحزب الله، وفتح، والانتفاضة، والمستوطنات الإسرائيلية، وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS... إلى جانب تعريف بالمصطلحات والشعارات التي ترفع في التظاهرات المناصرة لفلسطين، أو يكتبها البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل: "من النهر إلى البحر، فلسطين ستصبح حرة"، و"الانتفاضة إلى النصر"، و"صوتي ضد الاستعمار الاستيطاني والتطهير العرقي"، و"إنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي"، و"اضرب اضرب تل أبيب"... وتطلب الشبكة التعامل مع كل هذه المصطلحات كتعابير معادية للسامية.
لعلّ الترجمة المهنية لكل ما سبق يمكن رصدها في نشرة الأخبار اليومية Tagesschau التي تقدمها الشبكة. تتبنى النشرة الرواية الإسرائيلية بكل تفاصيلها، وتواصل منذ السابع من أكتوبر بناء سياق إخباري ينزع الإنسانية عن الفلسطينيين، لتبرير قتلهم. كما تقدم حسابات Tagesschau على مواقع التواصل الاجتماعي تغطية متواصلة. وكما على الشاشة كذلك على الشبكة، تتحذ التغطية نبرة عدائية تجاه الفلسطينيين. ففي سلسلة تصاميم مثلاً قبل أيام، نتابع شرح ما حصل منذ السابع من أكتوبر... 4 تصاميم، تتجاهل وجود الفلسطينيين أساساً: عملية طوفان الأقصى، ثمّ سقوط قتلى إسرائيليين، وأخذ الرهائن إلى القطاع، ثمّ بدء العدوان، ثم دخول مستشفى الشفاء "حيث توجد شكوك ببناء حركة حماس لأنفاق تحته"... ولا أي كلمة عن أكثر من 14 ألف شهيد فلسطيني.
أداء ARD ليس شاذاً عن الأداء العام للإعلام الألماني في ما يتعلّق بالانحياز إلى الاحتلال. الشهر الماضي كشف موقع "ذا إنترسبت" الأميركي، نقلاً عن موظفين ووثائق داخلية، أن "أبداي" Upday (مملوك للمؤسسة الإعلامية الألمانية العملاقة "أكسل سبرينغر") الذي يعدّ التطبيق الأكبر لتجميع الأخبار في أوروبا أصدر توجيهات لصحافييه بجعل التغطية المتعلقة بالعدوان على غزة تعكس تأييداً لإسرائيل، وبإعطاء الأولوية للرواية الإسرائيلية، وبتقليل أعداد الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين.
وقال أحد الموظفين لـ"ذا إنترسبت"، في حديثه عن الإشعارات الفورية والتنبيهات المرسلة إلى ملايين الهواتف: "لا يمكننا إبراز أي شيء يتعلق بعدد القتلى أو الضحايا الفلسطينيين من دون ذكر معلومات حول إسرائيل في موقع أعلى في القصة". وأشار الموظفون، الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم لحماية مصدر عيشهم، إلى أن هناك انزعاجاً واسعاً في جميع أنحاء الشركة بشأن هذه التوجيهات.
وحذر التطبيق موظفيه من نشر أي عناوين يمكن أن "يساء فهمها" على أنها مؤيدة للفلسطينيين، وفقًا لموظفَين قابلتهما "ذا إنترسبت". وطلب من الموظفين صياغة التعليقات التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون، وتجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، بلغة تؤكد على "حجم ووحشية" الهجمات التي تشنها حركة حماس على الاحتلال.
موقف "أكسل سبرينغر"، وهي الشركة الألمانيّة الناشرة لوسائل إعلام، بينها "بيلد"، ليس جديداً. فقد كررت مراراً دعمها المباشر للاحتلال منذ سنوات. حتى أن الرئيس التنفيذي للشركة ماتياس دوبفنر، قال في مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال" بعد استحواذ الشركة على موقع "بوليتيكو" الأميركي عام 2021، إنه سيعمل على رفع مستوى دعم "حق إسرائيل في الوجود.
في حديثه الذي تضمّن تفاصيل حول الاستحواذات والتوظيف، يقول بوفنر إنّ "دعم إسرائيل هو واجب ألماني"، ويتوقع أن يلتزم الموقع الأميركي بمبادئ الشركة الأم خصوصاً في هذا المجال.
في هذا السياق، لا تبدو إذاً تغطية صحيفة بيلد الألمانية مفاجئة بوقاحتها، منذ بدء العدوان، وصولاً إلى صفقة التبادل بين الاحتلال وحركة حماس. لنأخذ على سبيل المثال التغطية الحديثة لصفقة التبادل. يوم الأحد، في ثالث أيام الهدنة، نشرت تقريراً اختارت فيه المقارنة في الصورة وفي العنوان وفي النص بين الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين الأشبال الخارجين من معتقلات الاحتلال. العنوان: صورتان تقولان كل شيء عن الحرب. الصورة: أب إسرائيلي يحتضن عائلته بعد خروجه من غزة في صفقة التبادل، ومقابله أسير فلسطيني محمول على الأكتاف ورافعاً علم حركة حماس. النص: "في إسرائيل، يحضن الآباء والأبناء والجدات والأحفاد بعضهم بعضا. مثل إميلي الصغيرة (9 سنوات)، التي كانت في قبضة خاطفي حماس منذ 7 أكتوبر ورأت أخيراً والدها توماس مرة أخرى ليلة الأحد... وفي الضفة الغربية الفلسطينية، تم استقبال الفلسطينيين المفرج عنهم، ومعظمهم من المدانين بارتكاب جرائم عنف، بمسيرات إرهابية. لأن هذا هو شرط صفقة الرهائن: لا يتعين على إسرائيل أن توقف عمليتها العسكرية ضد حماس فحسب، بل يتعين عليها أيضاً أن تطلق سراح العديد من المجرمين الفلسطينيين. ولا يبدو أن العديد من هؤلاء قد نبذوا الإرهاب: فقد لوح الشباب بعلم الإرهاب الأخضر...".
طبعاً تتّخذ لهجة "بيلد" طابعاً تحريضياً متناسباً مع هويتها كواحدة من صحف الفضائح الشعبية في ألمانية (تابلويد)، حالها حال صحف غربية أخرى مثل "ديلي ميل" البريطانية، أو "نيويورك بوست" الأميركية...