بملابسها وحليها التراثية، تقدم الفنانة الفلسطينية سناء موسى برنامج "ترويدة"، برعاية تلفزيون فلسطين. يهدف البرنامج إلى جمع وحفظ وشرح الأغنية الشعبية الفلسطينية وقوالبها التي تشكل جزءاً مهماً من التراث الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام. سناء موسى، الواقعة تحت سحر التراث، تتماهى مع ميزاته وملامحه وتدرسه كفن عاش في الماضي وتطور ليستمر معنا في حاضرنا.
السياقات الأنثروبولوجية والتاريخية تُوثق حقيقة الانعكاس الذي يُشكِلهُ الواقع الفلسطيني بمختلف مراحله الزمنية على الأغنية الجزء الأكبر من هذا التراث عمره أضعاف عمر الاحتلال. في هذه الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، بلادُ الشام هي أرضٌ واحدة، لا حضور للتقسيم الجغرافي أو القومي. هذا الفن متشعب الألوان والأصول التاريخية يخلق بئراً لا تنضب من الأصالة الإنسانية والتراث العربي الواحد.
لموسى هاجسٌ عنوانه التراث. هاجسٌ لا يحتمل إجابات، لم يفترق عنها طوال مسيرتها، كان حاضراً ومتجدد الألوان في ألبومها "إشراق" الصادر عام 2010 و"هاجس" الصادر عام 2016. عبر رحلتنا الوديعة مع صوت سناء موسى في ألبوماها وبرنامجها "ترويدة"، نجد كثيراً من القوالب الغنائية بشكلٍ مُخالفٍ للشائع، ولما عرفناه من ناحية أصوله وطريقة تقديمه وأسلوب أدائه. فنٌ يمتلك مقومات وجوده ولبنات حضارته؛ حضارة تتجدد كحياة شعبها ونضاله العابر للأزمنة والحدود، وتجعلنا مدركين لهذا الوجه من قضيتنا في صراعنا مع العدو الصهيوني.
"ترويدة" هو ذاكرة حية، لها روايتها وقصائدها وأغانيها. وأيضاً، حالة ثقافية وموسيقية يُقَدِم لغير المختصين أصول الأغاني المتداولة شفهياً وطرق تأديتها المتنوعة ومراحل تطورها، يتطرق خلال حلقاته إلى الدبكة والأغنية الثورية والتراويد والتهاليل والأغاني المشفرة (الملالاة) والشروقيات والتحداية والدلعونا. ويتفرع منها إلى أغاني المواسم والأعراس والصوفية والتراتيل بكافة أشكالها. يتشعب ليرد لنا صدى صوت الأجيال في أغاني النساء والرجال والأطفال والبداوة وحتى المطر، يطرح علينا تساؤلاً عميقاً: هل الأغنية تحمل القضية أم القضية توصل الأغنية إلينا؟
بالتوازي مع الأدائية الهادئة لسناء موسى والقيمة الجمالية الإضافية التي يقدمها البرنامج بإعادة قولبة العديد من الأغاني الشعبية موسيقياً، وتقديمها مع عرض بصري يحفر في مخيلتنا طبيعة فلسطين، يستمر هاجس تثبيت الهوية الفنية الفلسطينية التي تتعرض إلى الإقصاء ومحاولات سرقة دائمة من قبل الصهيونية المتمثلة بإسرائيل.
الأرشيف حاضر، قليلٌ منه ورقي وما تبقى منه مروي عبر حكايات من شاركوا في البرنامج. عبر التاريخ، الرواة هن حارسات الكروم كما تسميهن موسى، النساء اللواتي أنجبن المناضلين حاكوا بإبرهن أثواباً من الطبيعة، وبأصواتهن وثقوا ذاكرة الحزن والنضال، لن يسمحن بطمس التاريخ بتذكيرنا الدائم عبر أغنياتهن بالوصية التي تحمل مضموناً خالداً وسمات إنسانية تحررية. هؤلاء الأمهات هن حارسات الأغنيات التي تملي نفسها علينا.
"الترويدة"، أي غنوا رويداً على مهل، الأداء فيها للنسوة فقط من دون آلاتٍ أو إيقاع، تأتي بعدها الملالاة، أي الأغاني المشفرة بإضافة لام زائدة للمقاطع المغناة لتصعيب الفهم. هذه اللام سيف ذو حدين، إذ ساهمت بتعقيد نقل هذا التراث وفقدان الكثير منه عبر الزمن. للملالاة نوعان: أغاني الحرب والثورة، وبها تُرسل الرسائل للثوار، وأغاني الحب التي ترسِل الرسائل بين العشاق.
يتحدث الباحث الأنثروبولوجي، شريف كناعنة، في البرنامج عن الأصل البيولوجي للهوية وكيفية تثبيتها، ويكمل الروائي والباحث وليد شرفا البحث في سيرورة وعلامات والصدمات الاجتماعية التي شكلت الأغنية وقصتها. على مدى حلقتين، يشارك الشاعر والزجال نجيب يعاقبة هو وفرقته بشرح الزجل وأنواعه. هذا الفن الذي بدأ يأخذ شكله الفلسطيني على يد الشاعر نوح إبراهيم، هو شعر عامي ينظم ارتجالاً، وهو ظاهرة شعبية حديثة، نشأته مرتبطة باللهجة العامية وأنواعه كثيرة كالميجانا والعتابا والموال والمعنى والقرادي والمردود والموشح والشروقي ويا حلالي والقصير والحداء والمربع والمخمس والمثمن والمقسوم والفرعاوي والسبعاوي والمحوربة.
لأغاني المهد والتهاويد نصيبٌ كبيرٌ، هي مساحة الأم الشخصية كي تطلق هواجسها وأمانيها وأحزانها خلال هدهدة طفلها للنوم، بلحن هادئ في أذن صغيرها تناجي زوجها الذي ذهب إلى السفربرلك (النفير العام الذي أصدره السلطان العثماني محمد رشاد عام 1914)، وتعاتب المقربين وتَنذُر نذورها لسلامة أهلها وأحبائها، التهويدة الشهيرة لسناء موسى، "عينه ملانة نوم"، هي المثال الأوضح لهذه الأمنيات.
بدايةً من السفربرلك عام 1914، إلى سقوط القدس عام 1917، وصولاً إلى هزيمة الجيش العثماني في حلب عام 1918، رُسمت معالم حديثة للأغنية الفلسطينية كأغنية جماعية، كانت صوت الحسرة ووصف حال من فروا من الخدمة الإلزامية (أغاني الفرارية)، وحاضرة لكسر حدة الموقف لحظة سحب الفلسطينيين إلى حربٍ سببت لهم أيضاً مجاعة كبيرة بعد إطلاق الاحكام العرفية التي كانت ذروتها بين عامي 1916 و1917. هذه الأغنيات تحولت من أغان تحذيرية للفارين من الخدمة إلى رمز للمقاومة كأغنية "حيد عن الجيش يا غبيشي".
ما بعد السفربرلك أتت مرحلة الاحتلال البريطاني، ثم نكبة فلسطين، ومعها أتى الفدائي تليها مرحلة ثورة العاصفة، ثم الانتفاضة الأولى والثانية. تحولت مع هذه الأحداث الاجتماعية والسياسية الصارخة الأغنية من انطباعية إلى تثويرية، وتعددت منابرها وفرقها وحملت ما حملته من وعي موجه إلى الجماهير الفلسطينية والعربية عبر المهرجانات والإذاعات والتلفاز لاحقاً. يتحدث الباحث والمؤرشف في التراث الفلسطيني، حمزة عقرباوي، عن التراث كسجل بيننا وبين أمتنا فهي التعبير عن الوقت الذي قضاه شعب ما في مكان ما.
أدب ما بعد النكبة مختلفٌ عما قبله، حسب الكاتب صقر أبو فخر ورئيس مجمع اللغة العربية في حيفا مصطفى كبها، إذ إن أدب ما قبل النكبة يحمل نوستالجيا من نوع خاص، نوستالجيا الفردوس المفقود ومظلومية البطل الذي يقتل على الحدود. تحول البطل المقتول إلى الفدائي مع بداية المقاومة، وأتت الأغنية لتصبح التعبير المنغم له وللمقاومة.
الروزنامة الفلاحية وما تحمله من قمح الخبز وزيت الزيتون تتغير بين منطقة وأخرى، وتتنوع معها التعابير عن وقت العمل، من الجهد المبذول من قبل إشراق الشمس وصولاً إلى حفلات السَمر في المساء. أكثر من 800 ألف شجرة خربها الاحتلال منذ عام 1967، لكن رمزيتها لم تهتز، متجذرة كهوية فلسطين.
لأغانينا صفات ثابتة كغنائيتها الدائمة وتناولها لأغراض حياتية متعددة، كالفخر والمديح والغزل والنضال. وتشترك مع الشعر اشتراكاً فعالاً، ولتوثيقها تتشارك سناء موسى مع مجموعة كبيرة من المختصين، تقدم لنا الماضي بوجه جديد يستمر معنا إلى الحاضر، يرسخ وجودنا الحضاري وتحفظ الأساليب الخاصة به وما يخلقه من وجدان شعبي، وإن اختلفت أشكاله من حيفا إلى غزة ومن الجليل إلى نابلس.