يثبت عادل إمام فرضية أنّ الممثل الحقيقي في السينما يأتي من المسرح. نجاح مسرحياته مدوٍّ، حتى أنّها عرضت مصوّرة في قاعات السينما. لا يكمن نجاحه في وسامته، بل في أدائه. يتمتع بشراسة لبقة ونادرة في أدائه. لذا، فهو مُقنع بشكل فظيع. مثلاً: يصير جابر ابن الفلاح موظّفاً في المدينة. هذه نقلة أولى، يؤدّيها إمام بمصداقية عميقة. هذه نقلة عاشها ملايين أبناء الفلاحين مثلي، أنا كاتب المقالة، الذي استبدل المحراث بالقلم. جابر مهندس جيولوجي يُكلَّف بتربية حمير ومعزة وحصان، ويُقدِّم نفسه إلى كلب (إحنا بتوع الأتوبيس). بسبب وعيه ظروفه، وحرصه على راحة والديه، يتصرّف الموظّف الصغير بطاعة كلبية في الجهاز البيروقراطي، ليتجنّب الاصطدام مع محيطه، وليصمد ولا يُطرد. لكنّه حين يقع، يُهان، فيصمت ويواصل التعبير عن حالته.
كيف يستبطن الممثل انعكاسات الأحداث عليه، بدلاً من أنْ تبقى مجرّد انعكاسات خارجية؟
يصمت، يواصل التعبير عن حالته. يصير الأداء قوياً، خاصة حين يتمكّن الممثل من قطع الصوت والضجيج، ويترك جسده وملامحه تتكلّم. لدى إمام توافق مذهل بين لغة الجسد والكلام الذي يُقال. يتحدّث الممثل المبدع بملامحه أكثر من لسانه. لا يصدر الفرح والعُبوس من الوجه، بل من الروح.
في "إحنا بتوع الأتوبيس" (1979) لحسين كمال، كانت مصر تعيش حملة ناصرية، جادة جداً، لتطهير البلد، حفاظاً على سلامة الوطن. التعليمات وصلت، والناس يرسَلون إلى الجحيم في بلد المخابرات، التي لها الحقّ في أنْ تفعل ما تريد في الشعب. الفيلم كوميديا موجعة عن سياق بوليسي واجتماعي، قاد إلى النكسة. الموظّف نموذجي، شعاره: "العزة للوطن". يتوهّم تعرّضه لشكوى كيدية، تجعل حياته جحيماً. احتياطاً، يتماهى الموظّف تماماّ مع النظام الذي يقمعه، ويُردّد خطاباً عن إرادة الشعب المصري، والردّ على الاستعمار وأعداء الناصرية، الذين ينكرون سيل الحقائق. من قرّر أنّ الحقائق سائلة؟
هذه محاكاة ساخرة لخطاب النظام من كارهه. في ذلك، يتدحرج الأب الخائف إلى حالة حمق لا علاج لها. من ورّطه؟ جاره البسيط مثله. هكذا يقهر المقهورون بعضهم بعضاً، قبل أنْ تقهرهم سلطة "ثورة 23 يوليو 1952". بعد ساعة، يصير إيقاع الفيلم شديداً، إذْ تتراجع، بل تختفي اللمسة الكوميدية، لتحلّ أجواءٌ عبثية تقهر البشر.
كيف يخترق الممثل مزاج الشخصية التي يؤدّيها؟ يتسرّب إلى داخلها. يخترقها بشكل حميمي. يلتقط المضمون النفسي للدور، وينزلق فيه، ويتحرّك فيه بسهولةٍ، كسمكة في الماء. لذلك، قدّم عادل إمام التراجيديا الاجتماعية والسياسية في قالب كوميدي سريالي. السريالية ليست اللاواقع، بل الواقع مُبالغاً فيه. أي تجاوزه بالدفع به نحو العبث، ليصير مفهوماً، وحتى مسلّياً.
بعد المشاهدة والضحك، تترسّب مرارة شديدة في وجدان المُشاهد. الفيلم لا يزال مثلاً مُدوّياً لسينما النكسة. حاول فضح المسار الذي قاد إلى الهزيمة، وتفسيره، في زمن الاشتراكية والناصرية. بعد ذلك، ظهر إمام في أفلامٍ ترصد زمن الانفتاح والليبرالية في مصر أنور السادات وحسني مبارك.
ما تجلّيات النظام البوليسي حينها؟ فوجئ الوزير (جميل راتب) بالأناقة الزائدة لمدير مكتبه، فتحي نوفل (عادل إمام)، فيقول المدير له: "أنا واجْهة لسيادتك". يردّ الوزير: "ونِعْم الواجَاهة". تستحق "الواجاهة" وسماسرتها عناية وتمويلاً خاصين. مدير المكتب يعمل أيضاً مديراً للحملة الانتخابية للوزير، ويُجبره أمام الكاميرات على تقبيل طفل وسخ على وجهه والمخاط عليه، ويقول له: "بوسو من بؤه" (قبّله في فمه). هذا حاصلٌ في "طيور الظلام" (1995) لشريف عرفة مخرجاً ووحيد حامد سيناريست. يجلب مدير المكتب طلبات بعض أعضاء مجلس الشعب. يرفض الوزير تلبيتها. يردّ المدير: "هؤلاء يتحكّمون في كلّ نواب المجلس. إنْ خدمناهم، سيطرنا على المجلس، وتجنّبنا الأسئلة الحرجة، وطلبات الإحاطة ضد سيادتك". في وقت فراغه، يروّض المدير صديقاً سابقاً انضمّ إلى جماعة طيور الظلام.
هذا فساد مُمأسَس، وليس ظرفياً وطارئاً.
تتّسم أفلام عادل إمام بمهاجمة جبهية فظيعة للحظة التاريخية. لم يحتج وحيد حامد إلى حكايات عن يوسف وفرعون والمماليك لشرح مصر القرن الـ20. يحكي عن هنا والآن. خاض نظام حسني مبارك حرباً ضد تنظيم "الإخوان المسلمين"، مُستعيناً برجال الأعمال. ضباط الأمن ضباطُ إيقاع هذا الصراع. يمكن للإخوانيّ أيضاً أنْ يكون رجل أعمال، لكنْ بشروط. يجتهد رجال الأعمال في مُراكمة الثروة، لتأمين مستقبل الأولاد في مناصب عالية مستترة، ومُدرِّة للربح. يجتهدون في إظهار الولاء لنظامٍ، لضمان نصيبهم في الكعكة، لأنّ الصفقات العمومية لا تُدبَّر بشفافية. يبحث رجال الأعمال عن الربح، ولا يتكلمون كثيراً. لذلك، هم مُفيدون، وغير مؤدلجين. تمّ توظيف هذه الخطاطة في دول كثيرة.
يعرض "طيور الظلام" المؤسّسات المنخورة من الداخل. يصف الوزير أعضاء مجلس الشعب بألفاظٍ، لو قالها شاب معارض لسُجِن. هذا أثمر بؤساً وفوارق طبقية. تعاضد الفساد واقتصاد الريع على نهب الثروات. قرّر مدير مكتب الوزير فعل أي شيءٍ ليغادر القاع الاجتماعي الذي ولد فيه، ويصعد إلى فوق.
ما الفرق بين أنْ ترى البلد من فوق، وأنْ تراه من تحت؟
الجواب في لقطة مزلزلة: يدخل فتحي نوفل غرفة فندق فخمة، في طابق علوي، ويطلّ لأوّل مرة في حياته على القاهرة ليلاً. يفاجأ بالجمال. يستخلص بوجع: "من ينظر إلى هذا البلد من فوق غير من يراه من تحت. الذين ينظرون من تحت، يرون فقراً وزحاماً وأناساً يخبط بعضهم بعضاً، وهواءً فاسداً ونزاعات". لذا، عمل الانتهازيون بكلّ قوة للصعود من القاع.
كيف؟
يُقدّم "عمارة يعقوبيان" (2006)، لمروان حامد، مشهداً مُكثّفاً لوضع البلد، حين يطلب رجل السلطة (خالد صالح) المُرتشي نصف الأرباح من رجل الأعمال (نور الشريف)، للسماح له بالاشتغال من دون مداهمات بوليسية. حين وافق رجل الأعمال، هَمس لنفسه: "لا بأس أنْ يرقص الإنسان للقرد في دولته". بعد لحظات، أضاف: "لا بأس أنْ يرقص القرد للقرد"، طالما أنهما سيستفيدان معاً من انهيار إفلاس طبقة الباشوات، ذوي الأصول العريقة، لكنْ المفلسين، الذين يحنّون إلى زمن مضى. جسّد عادل إمام هذا الحنين بتأديته زكي الدسوقي، الذي يتدهْوَر كلّ يوم، وتشتمه أخته.
المقارنة بين "طيور الظلام" و"عمارة يعقوبيان" تُظهر أنّ إمام نجح في أداء دور ابن الفلاح الانتهازي الصاعد طبقياً إلى القمّة، ودور ابن الطبقة المنهارة، النازل إلى جحيم القاع. أظهر أداء إمام كيف تتوافق لغة الجسد مع الكلام الذي يُقال. وحدهم الأطفال والممثلون الكبار يملكون لغة جسد أكثر مطابقة مع ما يعبّرون عنه.
أين تكمن قوة الممثل: في فمه، أم في جسده؟ في حركات الوجه، التي تُزيد من قوة معنى الكلمات التي تُنطق، صوت الممثل. "الصوت توقيع حميمي للممثل" (باتريس بافي، "معجم المسرح"). جمل إمام تعاد في الحوارات، تعبيراً عما يتكرّر، رغم ضرره. وهذا من دون نسيان شرحه لقانون ساكسونيا، الذي يتعارض مع قانون حمورابي، في "الغول" (1983) لسمير سيف. عاد الاستشهاد بقانون ساكسونيا، بقوّة، إلى مواقع التواصل الاجتماعي، بعد اعتداء حسن الشحّات على اللاعب المغربي محمد الشيبي.
عادل إمام ممثل يملأ مركزه. هذا من أثر اشتغاله على نفسه، بفضل الثقافة ومهارة اللعب بالصوت والجسد. عملٌ ومرانٌ يُبطّلان ادعاء من يزعمون أنّهم وُلدوا فكاهيين بالفطرة. إمام ممثل أحبّته الكاميرا وقتاً طويلاً. لم تنطفئ نجوميته. يتعذّر تناول كلّ أفلامه، لكنّ الجزء المشار إليه يُخبر عن الكلّ. تأثيره في بداية نجوميته أكثر من تأثيره في عزّ شهرته. السبب؟ أعتقد أنّه كان يخضع في البداية لإدارة المخرجين. لاحقاً، صار يحاول إدارة نفسه، ويرتجل كثيراً، ويختار المخرجين، كما في "مرجان أحمد مرجان" (2007) لعلي إدريس.