تحيا فلسطين: ليست إلا فاتحة لحديثٍ أطول

25 يناير 2024
في استوكهولم (أتيلا آلتونتاس/ الأناضول)
+ الخط -

كثيراً ما يهوى جهاز الإعلام قصصاً مثل تلك التي تصوّر العثور على الابن الضال، ذاك الذي ظل مختفياً لسببٍ ما، قبل أن يجد طريقه مرة أخرى، ويعود إلى الحياة العامة. ويمكن لجهاز الإعلام ذاته أن يلعب دور الشارح والمفسّر، متوسطاً بين الابن والجموع التي قدِمَت من كل صوب لتلقاه وتسمع قصته. لكن هذا الهوس، ليس مجرد عادة بريئة، أو تفضيل يمكن تجاهله أو الانخراط فيه بالسعادة العمياء المتوقعة، وهو ما تدلنا عليه حكايات عدة، كانت آخرها حكاية سيكستو رودريغيز؛ الرجل الذي مات للمرة الأخيرة. اليوم، تطل قصة أخرى، تعود خلالها أغنية "تحيا فلسطين" لفرقة "كوفية" إلى الحياة، في ساحات التظاهر والريلز والأخبار، تلك التي تبتدئ عناوينها بـ"إليكم قصة الأغنية". كما نعرف الآن، ليست الأغنية بجديدة. وبعيدًا عن تصويرها كرائعة مغمورة طفت على السطح الآن، ماذا يمكن لها أن تقول لنا؟

صناعة التشويق... بعيداً عن فلسطين

فلنعرض المسألة باختصار: لا تشويق من دون استخراج لرائعة مدفونة، ولا رائعة مدفونة من دون فترة سُبات طويلة نسبيًا. والأهم، لا وجود لذلك كلّه في حضرة فنانٍ ممارس. هذه هي حكاية فرقة "كوفية" وأغنيتها: فنان فلسطيني مهاجر، اسمه جورج توتري، استقر في السويد وأسس مع مجموعة من الأصدقاء فرقته، التي أطلقت الأغنية في سبعينيات القرن الماضي، وعاش مؤلفها بعد ذلك حياة شبه هادئة، قبل أن يُكتب لأغنية "كوفية" عمر ثانٍ، وتتحول إلى أغنية احتجاج في السويد، وتنال حصتها من الانتقادات والاتهامات.

يمكن للقسم الببليوغرافي أن يتوسع أكثر من ذلك، وأن يمر على كل التفاصيل التي أمست مكرورة حتى اللحظة، لذلك سننتقل إلى أجزاء أكثر أهمية تغيب عن محاولات التأريخ الكلاسيكية.
ربما يكون السياق واحداً من ضحايا إعادة الاستخراج هذه. لا نعلم عمليًا في أي سياق أُنتِجَت هذه الأغنية، ومن المستحيل لرواية "إعادة العثور" أن تلتفت إليه بأي حال. وبينما يبدو هذا المسكوت عنه شكليًا، أو شغلًا ينشغل به المتخصصون وحسب، فإن إغفاله يمنع التساؤل عمّا إذا كانت "كوفية" طفرةً أم جزءاً من حراكٍ فني أوسع، يمكن استحضار ما أنتجه أيضاً.
والواقع أن الفرقة كانت جزءاً من كلٍّ أكبر، إذ يكتب الباحث البريطاني لويس بريهوني (Louis Brehony) في ورقة عن مشكلة الموسيقيين المنسيين أن الفترة التي ظهرت فيها "كوفية" لم يكن الفقر واحدًا من علائمها. وعلى النقيض، يطرح بريهوني أمثلة موسيقية تتمثّل بتجارب زينب شعث أو جورج قرمز، أو ثقافية بالمعنى الأوسع للكلمة، ساهمت في وضع فلسطين على الخريطة الدولية في الفترة ذاتها التي كانت هذه القضية تُطرَح فيها بالتزامن مع حركات التحرر العالمي الأخرى وتتبوأ مكانها ضمنها.
وباستثناءات قليلة، لا يبدو أن الفنانين هؤلاء يحضرون بالكثافة ذاتها، ربما بانتظار مكتشفٍ آخر أو لحظة مجد مواتية ترفعهم إلى منزلة الفنون "المُبخّس فيها" (Underrated). يقودنا هذا إلى مسألة أخرى: من يميط اللثام ويعلن الاكتشاف؟ تشتبك هنا الإجابة بمحددات عدة، تبتدئ بالحيازة، بمعناها التقليدي، على العمل الفني، ولا تنتهي عند رأس المال الرمزي والثقافي الذي يستطيع أن يطلق حكمًا تقييمياً يؤخذ به.
وفي الحالة الفلسطينية، فإنّ بريهوني، خلال عمله على وثائقي يحمل اسم الفرقة، تنبه إلى أن الثقافة الفلسطينية لم تكن معزولة عن هذه الممارسات على إثر نهبها، لتظهر لاحقًا على شكل "اكتشافات"، كما في حالة بعض أعمال شعث التي "اكتشفتها" مخرجة إسرائيلية في الأرشيف الذي نُهِب من بيروت بعد اجتياحها.
تترك مثل هذه الحكايات انطباعًا مرًّا، إذ يلعب الفن فيها، وبفعل الظرف المهدد، دورًا يتعدى ذاك الذي يمكن تصوره في سوق الفن الاعتيادي، ويصبح واحدًا من الرموز الجامعة التي تسعى إلى تمثيل ذات فلسطينية وتقديمها مقابل كل الجهود الساعية إلى إلغاء وجودها، ولفقدانه أو نهبه وإعادة اكتشافه حسابات أخرى بالتالي.

حكاية وقعت في المستقبل

ليست "تحيا فلسطين" إلا مجرد فاتحة لحديثٍ أطول، لا يقف عند الأعمال التي ضلت طريقها نحو قسم المفقودات وحسب، بل إلى تلك التي تنتج اليوم، أو لم تنتج بعد وقد تجد نفسها محكومة بالمصير ذاته. لا يخفى على أحد أن إنتاج الثقافة العربية يمر بمآزقه الخاصة منذ سنوات، إذ لم تجد هذه الثقافة، بعيد انهيار نموذج الدولة الداعمة، آخرَ أكثر استقراراً، وقد تكون الفعاليات الملغاة بعد 7 أكتوبر والمناخ العدائي خير مثالٍ على عدم الاستقرار الذي تشهده البدائل، مثل تلك القائمة على المنظمات غير الربحية.

ليس التساؤل عن المستقبل بالتالي شأناً فلسطينياً وحسب، بالمعنى الضيق للكلمة. لكنّ اللحظة الراهنة تفيد في عرض مشاكله بوضوحٍ قلّما نشهده في أوقاتٍ أخرى. ولمّا كان العرض التاريخي الموجز لأعمال الزمن الماضي عاجزاً عن الإتيان بما يتخطى السرد الببليوغرافي المغرق في تبسيطه بغرض بناء قصة العمل "المعاد اكتشافه" فإن أهمية فهم السياق الأوسع تصبح بغنى عن التعليل والتفسير الآن.

هل كان نتاج تلك المرحلة بشخصياتها المختلفة مرتبطًا بفهمٍ سياسي معين للفلسطيني وما يمثله؟ بالطبع، وهذا ما يقوله معظم الفاعلين في تلك المرحلة. هل أثرت التحولات التي تلت تلك المرحلة والانقسامات على هذه الإنتاجات؟ تبدو الإجابة كذلك بالفعل، فلسطينياً وعربياً حتى. وبقدر ما تبدو العودة إلى تلك الأعمال اليوم مغرية أو ضرورية، فإننا نرى الآن كيف لاستحضارها كمكتشفات أن يُغيب هذا الكم من الأسئلة، التي يبدو أن خوض غمار الفترة القادمة من دون إجابات راهنة ومعاصرة عنها، لن يكون في مصلحة أي أحد.

المساهمون