يحدث، في مقهى أو حانة، أو في سهرةٍ منزلية أحياناً، أنْ يُسأل ناقدٌ عن مهنته، والسائل ـ السائلة غير عارِفَين به، كثيراً أو قليلاً، وتعاملهما معه منبثقٌ من لقاءات معظمها عابر، في مكانٍ ـ سهرة أو أكثر، من دون أنْ تتحوّل اللقاءات إلى معرفةٍ تُتيح رفقةً، أو ربما صداقة. يُجيب من يُسْأل أنّ مهنتَه صحافةٌ معنيّةٌ بالسينما (يقول أحياناً إنّ المهنة نقدٌ سينمائي)، فيكون ردّ الفعل الأول سؤالاً ثانياً، فيه شيءٌ "نافر" من ثقةٍ زائدة بالذات، غير مفهومٍ مصدرها: يعني أنت مهتمٌّ بالسينما الغربية، فلا سينما في لبنان، وما نشاهده من أفلامٍ لبنانية قليلٌ، وهذه ليست سينما.
هناك من يُضيف إليها أفلاماً عربية، مع تنزيهٍ شبه كامل للأفلام المصرية، ففي هذه الأخيرة ما يُشَاهَد ويُفرح ويُسلّي، كما يقولون، والأمثلة المُقدَّمة تعكس جهلاً كثيراً بالسينما أساساً، وبالتجاريّ منها أيضاً. هذا ليس استثناءً، بل يكاد يكون قاعدة في بلدٍ منذور لمزيدٍ من خرابٍ، يتفشّى في جوانبه كلّها. سيُقال إنّ انعدام العروض التجارية المحلية لأفلامٍ لبنانية كثيرة سببٌ في جهلٍ. سيُقال إنّ هذا غير عابر، لكونه مزمناً، كأي مرضٍ عضال يقضي على الجسد والروح سنين مديدة. سيُقال إنّ البحث في هذا غير مهمّ، فمآزق وكوارث ومطبّات ومصاعب جمّة، يُعانيها البلد وناسه، كافيةٌ لتفعيل جهلٍ وبلورة حضوره في فردٍ وجماعة. لكنّ الحاصل سيئ، كي لا يُقال إنّه خطِرٌ، خاصة أنّ السائل ـ السائلة يؤكّد جهله بسؤال آخر: "أهناك سينما لبنانية أصلاً؟". أو ما يُشبه هذا: "أين السينما اللبنانية، فعلياً؟".
يحصل مثل هذا في مدن عربية أخرى، ومدن غربية ربما. الثقافة السينمائية، في بلدان تصنع سينما أو لا تصنعها، غير مُعمَّمةٍ في الجماعة، حتى في بلدان تصنع سينما، رغم أنّ بلداناً كتلك تشهد نسباً عالية (قياساً إلى عدد السكّان) من عدد المُشاهدين والمُشاهدات. أو ربما تكون مُعمَّمة، لكنْ ليس بالقدر الكافي؛ أو ربما لن يتقبّلها الجميع. عربياً، لا ثقافة سينمائية، ولا أي نوع آخر من الثقافات. هذا غير منبثق، فقط، من طغيان التلفزيون وأعماله المُنجزة في مرحلة لاحقة على نتاجاته المهمّة، وآخرها حاصلٌ في ثمانينيات القرن الـ20، ومعظم أعوام تسعينياته. هناك تجهيلٌ، لعلّه مقصود، في مسائل كثيرة، تريده سلطات الأمر الواقع، الأقوى من سلطةِ دولةٍ مفقودة، أو مغيّبة، أو مُلغاة، أو مُغتَالة.
فالمجتمع، أي التربية والسلوك والعلاقة بشؤون عامة كالثقافة والفنون، جهات مسؤولة عن خرابٍ متفشٍّ في شؤون حياتية كثيرة. جهات أخرى، كالإعلام والصحافة الفنية الأشبه بالصفراء مسؤولة أيضاً، فمن يصنع سينما جادة منبوذٌ وغير مُعمَّم، ومن يُنجز تفاهة توصف بأنّها "سينما"، يُروَّج له/لها ولإنجازاتهما، كأنّ تلك الإنجازات مفصلٌ متطوّر وتجديدي في تاريخ صناعة فنّ بصري كهذا. مؤسسّات تعليمية مسؤولة عن تجهيل كهذا، أو عن عدم معرفة، على الأقلّ. فكلّ شأنٍ ثقافي وفني مُلغى من مناهج تربوية ومدرسية، وهذا مؤذٍ وقاتل لوعي ومعرفة وثقافة، كما لعيشٍ وعلاقات وانفعال وتفكير، إنْ لم يكن لاغياً لهذا كلّه، أي لاغياً لحياة سوية إلى حدّ كبير.
هناك جهات أخرى تتحمّل مسؤولية التغييب والتجهيل أيضاً، يُفترض بها أنْ تكون سينمائية: الإنتاج، التوزيع، صالات العروض التجارية. في المقابل، كلّ جهدٍ تبذله جهة ثقافية وفنية غير مؤثِّر كفاية، وهذه طامة كبرى، فالقليل للغاية مكترثٌ ومتابع ومهتمٌ ومُتطلّب، ثقافياً وفنياً وفكرياً وحياتياً. هناك أيضاً المؤسّسات التلفزيونية اللبنانية، المسؤولة بدورها عن تجهيلٍ كهذا، أو المُشاركة في صُنعه، فالسينما غائبةٌ من البرمجة السنوية لها، عروضاً وبرامج يُفترض بها أنْ تهتمّ بكلّ النتاج السينمائي اللبناني، لا بما يُظَنّ أنّه أكثر شعبية من غيره فقط.