تانيا صالح: أغنية غارقة في الرمادي وكثافته

30 أكتوبر 2022
قطيعة تانيا صالح مع شركات الإنتاج واضحة (جوزيف عيد / فرانس برس)
+ الخط -

تحت عنوان "المستقل"، بما يحمله المصطلح من عمومية وميوعة وتفكك، انطلقت تانيا صالح (1969) في نهاية التسعينيات كفنانة مستقلة، عاصرت خلال رحلتها الممتدة، على مدى ثلاثة عقود، تقلبات مزاجية وجماهيرية، وظهور فرق وأفول أخرى، وقفزات تكنولوجية وثورات شعبية، غيّرت شكل المجتمع والفن والموسيقى والترفيه إلى الأبد.

أخيراً، صوّرت أغنيتها "ما عم فكر إلا فيك"، من ألبوم "10 م" الصادر عام 2021 (كلماتها وألحانها)، على طريقة الفيديو كليب. عمل مبني لونياً على الرمادي ودرجاته الكثيفة بالعموم، لتظهر مشاهد شخصية جداً، ومزاج الاغتراب والبعد والفقد لتانيا، وهي تتجول في باريس مع مخرج الفيديو، إيلي فهد. لم تساهم لقطات الستوب موشن في تعزيز الحالة المزاجية للكليب، فحصلنا على فيديو نستطيع استخدامه مع عدد ليس بقليل من أغانيها.

النص السلس للأغنية المتضمن العديد من الكلمات التي يسهل استعمالها وإعادة تدويرها، كـ انساك، ورسائل، ولاقيك، ووجهك، وبحلم، لم يخرج من عباءة الكلمة اللبنانية الحديثة، أو ما نستطيع تسميته كمرحلة لـ "الكلمة الغنائية" ما بعد زمن الرحابنة الآباء من جهة الشاعرية، وواقعية الكلمة الساخرة للابن زياد من جهة أخرى.

بهذا، تكوّنت بسبب ما ذكر مجموعة أغنيات لدى تانيا صالح، متشابهة من حيث البناء اللحني والكلمة اللبنانية، فنتذكر مباشرةً لبنان، البلد ذو الأزمات العميقة التي لم يستطع الخروج منها، ومن المهم لقراءة مزاج الأغنية التدقيق على فكرتين ناقشتهما صالح في العديد من مقابلاتها، وسنناقش أثرهما هنا. الأولى هي لزوم خروجها وعدم تصنيفها بأنها تحت عباءة فيروز والرحابنة، والثانية محبتها العارمة لزياد الرحباني، وتجربة العمل معه في مسرحيتين في التسعينيات.

واجهت صالح عبر ألبوماتها القليلة - مقارنة بطول مسيرتها الفنية - تقلبات المدينة المأزومة، وضربت بسياط نقدها الاجتماعي الحاد كثيراً من المسلمات، كالدين والطوائف والانقسامات السياسية والاجتماعية العمودية العميقة الحاصلة. وفي أحيان كثيرة، اختزلت عمق الأزمة إلى سطحها الثقافوي البسيط، كأغنية "عمر وعلي".

هكذا، نجد في معظم الألبومات مزجاً بسيطاً لبعض الأغاني الفولكلورية للحفاظ على الروح اللبنانية للمشروع. لم نستخدم كلمة "تجديد" الأغنية الفولكلورية بدل "مزج"، فقد تكون عملية التجديد واسعة ومعقدة جداً على تجربة فنان مستقل غير أكاديمي. كما نتعثّر في أغنيات أخرى بنظرة النوستالجيا للريف المتخيل، الذي لم يعد موجوداً، والحلول لكل المشاكل - السياسية في عمقها - تبدأ بـ "بوسة شوارب".

تانيا صالح التي بدأت في مجال كتابة ورسم الدعايات التجارية، ومارست الغناء كعمل جانبي، بدأت تبحث عن اسمها في المشهد الغنائي بأغنية "الأوزون"، وصعد اسمها إعلامياً عندما استطاعت تمويل ألبومها "شوية صور" الصادر عام 2014 والمكون من 10 أغنيات بشكل جماعي على موقع Zoomaal. تجربة لم تكن هي رائدتها، بل كانت الأسبقية لـ "مشروع ليلى"، لكن الجمهور العريض المتدرب على استقبال الملتزم من دون تمحيص، تقبل فكرة التمويل الجماعي على أنها ثورية أكثر من فرقة جديدة كـ "مشروع ليلى".

تبَدل المزاج الموسيقي لتانيا خلال رحلتها، واستغنت عن الروك منذ مدة طويلة لأنه، وحسب قولها، أصبح صاخباً ولا تستطيع سماع صوتها على المسرح، علماً أن الروك كموديل تجاري عندما هُضِم شرقياً وطُعم بالمصطلحات العربية أَنتج "البديل" عن السائد و"المستقل" تجارياً. وللتدقيق أكثر، فإن المستقل تجارياً حينها - في مطلع القرن - لم يعد بمعظمه مستقلاً اليوم.

بسبب خصوصية الحالة العربية بعد الربيع العربي، وخصوصية مشروع الرحابنة مع فيروز من حيث الكلمة الحالمة العابرة للزمن، ولاحقاً الخيبات السياسية الواقعية في لبنان، لم تستطع تانيا صالح وضع يدها على أرشيف للفن الثوري اللبناني لبناء مشروعها بالمعنى الهوياتي، رغم أن قطيعتها مع شركات الإنتاج واضحة، ولكنها ليست كافية لتشكيل هوية مشروعها البديل؛ فهي تحتاج أيضاً إلى هضم الجديد من ناحية النوع الموسيقي الحداثي والاستناد إلى الموروث الغنائي والموسيقي، لا نستطيع نفي أنها أدخلت بعض التآلفات الإلكترونية في ألبومها الأخير، لكنها وعلى النقيض، ضد إدخال صوتها في آلة تصحيح نغمي، أي الأوتوتيون.

وقعت تانيا صالح في هفوات عديدة. هفوات لم تساعد في انتشارها كترند بسبب خصوصية مشروعها، فاستنجادها بـ "الصباط العسكري" لقائد الجيش اللبناني كمحاولة لإضفاء رومانسية على الجيش، ونشرها لصورة لها تظهر فيها "سوداء" البشرة دعماً لحراك أصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة الأميركية بعد مقتل جورج فلويد؛ كلها محاولات (ربما عن غير قصد) تهدف إلى إضفاء الرومانسية على السياسة، لتأتي الاتهامات من المتابعين وتدينها على قلة ثقافتها ومعرفتها بالمعاني والخلفيات التاريخية لهذه الحقائق، وكيف كانت توظّف سياسياً.

رغم تجربة تانيا صالح الطويلة، وعملها مع عدد كبير من فنانين مختلفين في الساحة العربية والعالمية، قد لا يسعنا ذكرهم جميعاً، منهم ريم البنا وإبراهيم معلوف وحازم شاهين، وتجربتها في تلحين قصائد لشعراء عرب، كمحمود درويش ونزار قباني وعبد الله البردوني وبيرم التونسي في ألبومها "تقاطع" الصادر عام 2018، مع وضع تصور غرافيتي لهذا الألبوم كونها رسامة أساساً، إلا أننا لن نجد أغنية ثورية أكثر من أغنيتها "بلا ما نسميه" الصادرة عام 2002 من كلماتها، وإخراج نادين لبكي، وألحان شربل روحانا.

الأغنية اشتبكت مع الواقع الاجتماعي والسياسي في ذاك الزمن بشكل ثوري على عدة مستويات، بداية من الاسم الذي تبحث عنه لتطلقه على "ابنها"، دليل على ضياع الهوية، وليس انتهاءً عند بيروت المهترئة في الكليب والمنظور المشوه للكاميرا في المساحة المصورة وتحركات الموسيقيين، فكانت حينها تملك كأغنية مقومات البديل والعصري، من منصة الانتشار الجديدة بعيداً عن شركات الإنتاج التي تقيد الجماليات، ومن جهة التعامل مع الموروث الفيروزي من ناحية الأم المقدسة وموروث زياد الرحباني من حيث واقعية الأزمة التي تعيشها تانيا صالح، ويعيشها الآخر من خيبات ما بعد الحرب الأهلية، ووعود السياسيين الوردية، وإن لامس هذا الكلام أحداً، فقد لامس جمهوراً عريضاً متباين الأمزجة بشكل مربك.

المساهمون