لم يعد من الممكن الحديث عن الفن المعاصر، من دون الخوض في عالم السياسة والمال، خصوصاً أن الفنان تحول إلى نوع من المستثمر أو الناشط السياسي أو المُتهم الفاسد، سواء كنا نتحدث عن الفنان الأميركي جيف كونز (Jeff Koons) صاحب "ورشة العمال" التي تنتج أعماله، أو الفرنسي ريتشارد أورلينسكي (Richard Orlinski) المتهم بالتهرب الضريبي والتلاعب بسوق الفن.
المال أمر لم يعد يخفى على أحد في سوق الفن، وربما يكفي تصريح سلفادور دالي الشهير عن "عشقه للمال"، لاختزال هذه الحالة الإعلانية والماليّة.
في زمننا الآن، زمن الإبادة الجماعية وانتهاك حقوق الإنسان، ظهرت صورتان متناقضتان للـ"فن" والقيمة الفنية، الأولى تتمثل بإعلان الفنان الروسي أندريه مولدوكين بأنه سيدمر لوحات لبيكاسو وآندي وارهول وغيرهما، أي ما قيمته نحو 45 مليون دولار، في حال لم يُطلق سراح جوليان أسانج. بالطبع لم يحصل شيء بعد جلسات محاكمة أسانج في لندن، ولا نعلم مصير اللوحات التي حفظها مولدوكين في خزنة سويسرية في مكان إقامته في فرنسا.
الحدث الثاني إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن حذاء رياضي مذهب يحمل العلم الأميركي بسعر 399 دولاراً، وقد أعلن عنه أخيراً في مؤتمر الأحذية الرياضيّة، ليضاف إلى ترسانة منتجاته، كقطع من بذلته عندما اعتقل، وصورة اعتقاله الشهيرة. ما ينتجه ترامب هنا كيتش وطنياً، لكنه في النهاية فنّ، ويحمل قيمة سياسية وجمالية، والأهم من كل هذا هو ثمنه.
كلا الحدثين يشتركان أن الفن يستخدم للترويج السياسي، سواء لإطلاق سراح صحافي وناشط أخذ مفهوم حرية التعبير إلى أقصاه، أو للترويج للحملة الانتخابية لمرشح رئاسي شغل العالم بأكاذيبه وهذياناته، مهدداً حرية التعبير عبر إخراس الصحافيين بعبارة "أخبار زائفة".
سؤال قيمة الفن يمكن أن يحمل شقين؛ الأول مادي، وهذا جوابه سهل. الفن لا يبخس ثمنه، كل قطعة فنية، سواء كانت حذاءً أو لوحة، يُعترف بها أو تُمضى أو تُربط برصيد رمزي لشخص مشهور أو فنان، ستكتسب قيمة مادية لن تتراجع، في حين أن المفارقة هي بأن هذه القيمة، مهما ارتفعت، لا تترك أثراً في العالم. التهديد بتدمير الفن، طوال التاريخ، لم يكن له أثر، ومن هذا المنطلق يمكن وصف تهديد العمل الفني لمولدوكين، بمجرد استعراض.
الحدثان على اختلافهما الجذريّ، يكشفان أن الفن المعاصر، ليس فن المعلمين، لا يصلح لأن يكون "درعاً فنياً"، كما قال مولدوكين، بل وسيلة لاستعراض المال وجمعه. لكن، حتى فن المعلمين نفسه، تخريبه لم يغيّر أي شيء. "الموناليزا" أصبحت أشبه بغطاء طاولة من وراء الزجاج المضاد للرصاص من كثرة ما رمي عليها صلصة حمراء. لكن هل تغير شيء في ما يخص المناخ الذي تخرب اللوحة لأجله؟ أو الطعام الصحيّ ؟ أو استخراج النفط؟ نقولها بوضوح: لا، كل شيء على حاله.
الواضح أن سوق الفن لا تؤثر بالسياسة والمال، لكن الأخيرين يؤثران بهذه السوق، حتى لو كانت وليدتهما وتتنفّع منهما. والواضح أيضاً أن المخاطرة بالأعمال الفنيّة، حتى لو بلغت حد التدمير الكلي، غير قادرة على تغيير أي قرار سياسي يعم البشريّة.
وهنا السؤال: إن كان الفن ملكاً للبشريّة، و"تراثاً إنسانياً لا يعوض"، لِمَ لا يغير تدميره أو محاولات الاعتداء عليه أي قرار يهدد البشريّة جمعاء؟ كلمة الملكية هنا هي المفتاح، من يمتلك الفنّ مختلف كلياً عمن يؤمن بقيمته العالمية والإنسانيّة. اللافت أيضاً أن لا قضية يمكن تغيير مسارها في حال تم تهديد الفنّ وهذه هي المفارقة، ما هي القضية التي على بساطتها قادرة على تغيير شيء ما، لنقل لون إشارة المرور مثلاً، أو ألوان خطوط الشارع، لأن التسليم بـ"عجز" فني كهذا، يعني أننا أمام "منتجات فاخرة"، لا أعمال فنية، ما يهم هو ثمنها فقط، وإن دمرت، لا بأس؛ بالإمكان شراء غيرها.