"إنه بابلو ماتيك: بيكاسو من وجهة نظر هانا غادسبي"، عنوان مركّب لا يخلو من الإيحاء الساخر لمعرض عن بابلو بيكاسو. لا تقتصر السخرية هنا على التلاعب بالكلمات فقط، فوجود اسم هانا غادسبي يؤكد هذا الجانب، خصوصاً أن الممثلة الأسترالية تشتهر بعروضها الكوميدية والساخرة، لكن هذه هي المرة الأولى التي تتولى فيها الإشراف على تنسيق معرض فني.
إذ رغم أن التعامل مع بابلو بيكاسو غالباً ما يكون بشكل جدي واستثنائي فإن غادسبي لا تحتفي به هنا بقدر ما تهاجمه، وهو ما أثار العديد من ردود الفعل المتباينة من قبل النقاد حول هذا المعرض.
يصادف المعرض، الذي يستضيفه متحف بروكلين للفنون في الولايات المتحدة الأميركية، الذكرى السنوية الخمسين لوفاة بابلو بيكاسو (1881 – 1973). يأتي المعرض ضمن مجموعة واسعة من الفعاليات والعروض الدولية المخصصة لإحياء هذه الذكرى في العديد من المتاحف والمؤسسات الفنية حول العالم. متحف بروكلين قرر على ما يبدو المشاركة في هذا الاحتفاء العالمي بشكل مختلف، إذ يسلط المعرض المستمر حتى 24 سبتمبر/ أيلول المقبل الضوء على إرث الفنان الشهير من خلال عدسة معاصرة ونسوية، بل وساخرة أيضاً.
استُلهمت فكرة المعرض من عرض ساخر كانت الممثلة الكوميدية هانا غادسبي قد قدمته على شاشة نتفليكس عام 2018، وتنتقد فيه بابلو بيكاسو باعتباره كارهاً للنساء. في هذا المعرض الذي يستضيفه متحف بروكلين تخفف غادسبي من حدة هجومها على بيكاسو قليلاً، فهي لا تنكر تأثيره الطاغي على مسار الفن العالمي كما تقول، لكنها في الوقت نفسه تناقش عدداً من الجوانب الإشكالية في سيرته وحياته المهنية، ومن أهمها علاقته المعقدة بالنساء ونظرته إليهن.
ترك بابلو بيكاسو بصمة لا تمحى في عالم الفن، إذ كان فناناً ذو تجربة فريدة تميزت بتعدد أساليبها وثوريتها، وكان ملهماً للعديد من الفنانين، سواء من معاصريه أو الذين أتوا من بعده. أثار بيكاسو إعجاب الجماهير في جميع أنحاء العالم، وحتى بعد مرور خمسين عاماً على رحيله ما زال يمثل رمزاً فنياً وثقافياً، ويعد علامة فارقة في تاريخ الفن الحديث، كما تباع أعماله بأسعار قياسية. ورغم هذه الشهرة الهائلة التي تمتع بها، إلا أن إرثه لم يخل من الجدل، فقد تعرضت حياته الشخصية للنقد، لا سيما في ما يتعلق بمعاملته للمرأة.
عُرف بيكاسو بعلاقاته المتعددة والمعقدة مع النساء، وهي علاقات كانت محفوفة بالحدة والاضطراب في أغلب الأحيان، بداية من عشيقته الفرنسية فرناند أوليفييه، وحتى ماري تيريز والتر، التي لعبت دوراً محورياً في تشكيل فنه. هناك أيضاً المصورة والشاعرة الفرنسية دورا مار، التي عرفت بيكاسو في فترة الحرب الأهلية الإسبانية، وكان لها دور بارز في إنجازه لعمله الشهير "غورنيكا" واتسمت علاقتهما بالغيرة والاضطراب، بسبب تعدد علاقات بيكاسو. إلى جانب عشيقاته أو ملهماته، تزوج بيكاسو مرتين، الزيجة الأولى من راقصة البالية الروسية أولغا خوخلوفا، والأخرى من جاكلين روك التي رافقته حتى رحيله.
من اللافت هنا أن معظم النساء اللاتي ارتبط بهن بيكاسو كن فنانات، وعلى درجة من الثقافة والموهبة لا يمكن إنكارها، كما لعبن دوراً مهماً في تشكيل تجربته الفنية. وعلى الرغم من هذه المكانة والموهبة التي تمتعت بها هؤلاء النساء إلا أن حياتهن قد اختُزلت في النهاية بوصفهن رفيقات لبيكاسو، وهو ما يحاول المعرض هنا لفت الانتباه إليه، كما تقول منسقته هانا غادسبي. في عروضها الساخرة غالباً ما كانت غادسبي تلفت الانتباه للسلوك غير المقبول للشخصيات المؤثرة في تاريخ الفن، بما في ذلك بيكاسو. لا تسعى هنا كما تقول إلى تحطيم أسطورة بيكاسو، بقدر ما تسعى إلى الاعتراف بوجهات نظر النساء المبدعات في عالم الفن، سواء من الناحية التاريخية أو في السياقات المعاصرة.
يضم المعرض أكثر من مائة عمل فني، بما في ذلك أعمال بيكاسو نفسه، إلى جانب أعمال فنية لفنانات بارزات من القرنين العشرين والحادي والعشرين. يتيح هذا التجاور للزوار استكشاف التباين والحوار بين الأصوات الفنية المختلفة، ويساهم في تسليط الضوء على التجارب المتنوعة والقوية للمرأة في الفن المعاصر، كما يقول البيان المصاحب للمعرض. يتحدى المعرض أيضاً السرد التاريخي الفني التقليدي الذي يهيمن عليه الرجال، والتشكيك في التمثيل العادل للنساء في المشهد الفني الحديث والمعاصر. جزء أساسي من المعرض يتمثل في التعليق الصوتي الذي تؤديه هانا غادسبي نفسها، ما يضفي روح الدعابة والسخرية على المعرض. من خلال مداخلتها الصوتية تدعو غادسبي الزوار للتفكير في التحيزات المتأصلة في تاريخ الفن، ومواجهة الحقائق غير المريحة حول إرث الفنانين المشهورين مثل بيكاسو.