بيكاسو في الدوحة

24 ابريل 2023
ترك الفنان الراحل قرابة ألفي لوحة وأكثر من 11 ألف رسم (رالف غاتي/ فرانس برس)
+ الخط -

قررت أن أشارك العالم في احتفاله بالذكرى الخمسين لرحيل الفنان العالمي بابلو بيكاسو (1881-1973)، فقرأت الكثير عن حياته وأعماله، وكذلك شاهدت الأفلام والمسلسلات المتوافرة عن مسيرته، ومنها مسلسل العبقري بيكاسو (10 حلقات) أنتجته قناة "ناشيونال جيوغرافيك" عام 2017، ويقوم الفنان الاسباني أنطونيو بانديراس بتأدية دور بيكاسو فيه.

واستمتعت جداً بمشاهدة الفيلم الروائي "نجاة بيكاسو"، إنتاج 1996، وقد أدّى الممثل المشهور أنتوني هوبكنز دور بيكاسو، فيما مثلت ناتاشا مايكلون دور عشيقته فرانسواز جيلو، التي يرتكز الفيلم على كتاب مذكراتها "حياتي مع بيكاسو".

كذلك شاهدت عدة أفلام وثائقية عن بيكاسو، ومنها الفيلم الجذاب "سر بيكاسو"، الصادر عام 1956، حيث يظهر الفنان العالمي أمام الكاميرا وهو يقوم بتجاربه الإبداعية، ويرسم 20 لوحة مختلفة وينتهي بالقول: "لست قلقاً من الجمهور، أريد أن اكتشف الحقيقة من الداخل". وشاهدت فيلم "بيكاسو: الحب، الجنس والفن"، من إنتاج "بي بي سي"، الذي يركز على حياته العاطفية واتصالها بأعماله الإبداعية، وأخيراً فيلم "ملهمات بيكاسو" على "الجزيرة الوثائقية".

ويبقى الأهم زيارتي لمعرضين عن بيكاسو أقيما في الدوحة، أوّلهما بيكاسو- جياكوميتي عام 2017، وثانيهما معرض استوديوهات بيكاسو عام 2020، وقد شاهدت فيهما لوحات ومنحوتات ورسومات وأواني خزفية أصلية، وهي أعمال رفض بيكاسو بيعها واحتفظ بها لنفسه، وقد استعيرت هذه الأعمال من متحف بيكاسو الوطني في باريس، وهي جزء من حصة الدولة الفرنسية من ميراث بيكاسو، فضلاً عن مجموعة من الصور والفيديوهات والمقابلات مع بيكاسو والفنان السويسري جياكوميتي (1901-1966)، الذي يعتبر من رواد المدرسة السريالية، وخصّص له الكاتب المشهور جان جينيه كتاباً بعنوان: "الجرح السري: مرسم ألبرتو جياكوميتي".

ركّز معرض بيكاسو - جياكوميتي على المقارنة بين أعمالهما وطبيعة العلاقة بينهما، ولا سيما تأثير بيكاسو في جياكوميتي. فيما شاهدنا في معرض استوديوهات بيكاسو الأمكنة التي عمل فيها، من مرسم باتو لانوار في باريس بين عامي 1904 و1912، الذي اشتهر بمرسم قارب الغسيل، حيث غابت عنه الماء والكهرباء وولدت فيه المدرسة التكعيبية، وصولاً إلى مرسم موجان الرحب في الجنوب الفرنسي حيث توفي بيكاسو.

وقد وجدت أنّ ما قرأته وشاهدته يؤكد أنّ الفنان العظيم بيكاسو لم يستطع أن يفصل حياته الخاصة، ولا سيّما مغامراته النسائية عن فنه، فجسّد كل عشيقاته في لوحاته، ودمج بعضهن ببعض، وكانت كل حبيبة تأخذه في مسار فني جديد، فيرتبط اسمها بمراحله الزرقاء والوردية والتكعيبية التحليلية، وكذلك التكعيبية التركيبية.

تقول عشيقته الأحب إلى قلبه فرانسواز جيلو في كتابها "حياتي مع بيكاسو": "لم يستطع أن يخفي أي علاقة جديدة، فحالما تظهر امرأة جديدة في حياته، يظهر وجه جديد في لوحاته. وكالعادة، عندما كان يغير علاقاته يظهر غموض معين في أعماله، لعله يعبر بواسطته عن قلق عام وعدم ارتياح".

وجيلو هي الوحيدة من ملهماته التي لقنت بيكاسو درساً، إذ قامت بهجره على غير ما اعتاد، ثمّ ألّفت كتابها الذي كشفت فيه الكثير من عيوب بيكاسو، من دون أن تغمط ميزاته.

بعد وفاته انتحرت إحدى عشيقاته، ووالدة إحدى بناته، ماري تيريز، وكذلك زوجته الأخيرة جاكلين، فيما عانت زوجته الأولى راقصة الباليه الروسية أولغا خوخلوفا من الاضطرابات النفسية في حياته.

لم يحب بيكاسو أيّاً من صديقاته أو أطفاله كما أحب نفسه وفنه. تزوج اثنتين منهما وأنجب أربعة أولاد، لكنّه كان يعتبر أيّ شيء إلهاءً له عن إبداعه، وانتهى به المطاف في أواخر حياته إلى رسم بورتريهات لنفسه، إضافةً إلى لوحات عديدة يصوّر نفسه فيها على أنّه مخلوق أسطوري مخيف (المونتتيور)، وتصف جيلو، التي أنجبت اثنين من أولاده: "كان مذهلاً في الرسم، ولكن كإنسان كان عليك أن تتعامل معه بحرص وإلّا دمرت".

في مقابلة متلفزة، سأله المحاور عن لوحته الخالدة فأجاب: "لا أعرف، هذا صعب، كل لوحة لها لحظتها الخاصة وزمنها الخاص والحالة التي كنا فيها، أنا والجميع، إنه أمر شخصي، إنها في الواقع أشبه بمذكرات تكتبها لنفسك".

كسر بيكاسو القواعد الفنية وغيّر الذائقة التشكيلية، ولا سيما أنّه بدأ حياته الإبداعية مع نشوب الحرب العالمية الأولى، وشهد الحرب العالمية الثانية وتشكل عالم جديد بعدها.

لم ينسَ بيكاسو وطنه اسبانيا قط، فظلّ عاشقاً لمشاهدة عروض الثيران، حيث رسم أوّل لوحة له وهو طفل بمرافقة والده. كذلك رسم مجموعة بعنوان أحلام فرانكو وأكاذيبه، فضلاً عن لوحته الشهيرة "غرنيكا"، التي تجسد قصف الألمان والطليان لهذه القرية عام 1937، بطلب من فرانكو، ولم تعلّق اللوحة في متحف باردو في مدريد إلّا بعد سنوات على وفاة فرانكو عام 1975.

وهنا نلاحظ أن فرانكو لم يطلب من القوات الاسبانية تدمير هذه القرية، بل من حلفائه. في حين أن نظام الأسد قام بذلك عبر البراميل المتفجرة، وهو النظام الوحيد الذي قصف شعبه بطائرات قواته.

رسم بيكاسو حمامة السلام 1949، وقدّمها لمؤتمر السلام العالمي وسمى ابنته بالوما، الذي يعني حمامة السلام بالإسبانية.

ترك ما يزيد على ألفي لوحة، و11 ألف رسم، و1200 تمثال، و1800 قطعة سيراميك، و8 سجادات، وصمّم ديكورات وملابس لعروض باليه وكتب الشعر وألف مسرحيتين.

لم يرَ بيكاسو أي انتماء حزبي أو فني على أنّه خالد أو غير قابل للتبديل، وهو ما يظهر في تنقله بين السريالية والتكعيبية والشيوعية.

وهو قال عن ذلك: "أنا شيوعي ولوحاتي شيوعية، لكنني إذا كنت إسكافياً، ملكياً كنت أو شيوعياً أو أي شيء آخر، فإنني لن أطرق حذائي بطريقة معينة كي أظهر موقفي السياسي".

المساهمون