بعد حفلها الفنّي، كانت الجماهير تتقاطر عبر الدهليز الموصل إلى حيث الحجرة التي يستريح بها الفنانون قبيل وبُعيد العرض. ما إن يُفتح الباب حتى يندفع نحوها المعجبون، يدٌ تلّوح بمناشير الأمسية واليد الأخرى تُمسك قلماً، وعندما يتوسلون إليها أن تهبهم توقيعها، كانت المغنية والممثلة الاستعراضية الأسطورة مارلين ديتريش (Marlen Dietrich) تُجيبهم بإنكليزية ميّزتها لكنة ألمانية: "ليس توقيعي الذي يجدر بكم أن تحظوا به، وإنما توقيعه هو"، مشيرة إلى شاب نحيل ووسيم يقف خلفها بحياء وتواضع.
كان الشاب المؤلف الموسيقي، مُلحّن الأغاني وعازف البيانو بيرت باكاراك Burt Bacharach (1928-2023) الذي رحل في الثامن من فبراير/ شباط الحالي، عن 94 عاماً. على الرغم من أنه لم يكن معجباً كثيراً بأغانيها، وإنما قبل بالعمل مرافقاً لها على آلة البيانو، وهو لم يزل في بداية مسيرته الفنية، وذلك في سبيل كسب العيش، إلا أنه بقي مديناً لبطلة فيلم "الملاك الأزرق" بدعمها له وإيمانها بموهبته، وقد أثبت دوماً أنها كانت على حق.
قد يظن المرء أن تلحين أغنية أهون من كتابة أوبرا أو عمل أوركسترالي ضخم لمدة خمسين دقيقة. لكن أن تُبدع أغنية، بعيار باكاراك، متناسقة، متينة البنيان، شديدة التركيب، ومع هذا كله سهلة سائغة تُحسِن صناعة الدهشة في النفس فور سماعها، فإن ذلك ينطوي على عملٍ مُضنٍ وشاق، إذ إنه يعتمد التكثيف والتركيز، علاوة على أنه يتطلّب المستوى ذاته من المعرفة والكفاءة اللازمة لأجل كتابة أي من المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية من سيمفونيات وكونشرتات، كالإلمام بقواعد الانسجام، أو الهارموني، وإدراك أسرار التوزيع الآلي، والأهم من هذا كله، المقدرة على التصميم الموسيقي.
مثل Anyone Who Had A Heart، التي وضع ألحانها باكاراك، نظم كلماتها شريكه وكاتب نصوص معظم أغانيه هال ديفيد Hal David (1921-2012) وأُصدرت عام 1963؛ فجعلت من مغنيتها ديون فارويك (Dionne Warwick) الأولى من بين أفضل عشر أغان منفردة على نطاق الولايات المتحدة الأميركية. بأثرٍ من ذلك، اكتسبت فارويك شعبية كاسحة. في بريطانيا، أعادت كيلا بلاك تقديمها لتغدو الأغنية النسائية من بين الأكثر استماعاً في البلاد على طول عقد الستينيات.
تُعدّ Anyone Who Had A Heart نموذجاً يُحتذى به، في العبور بالأغنية الجماهيرية Pop إلى أبعد من التنميطات المكرورة الموجهة للاستهلاك المحض، لتُصبح مؤشراً على عمق المقاربة الفنية وتعقيد المعالجة الموسيقية. إذ لا يقف باكاراك عند الوزن الإيقاعي البسيط المألوف، المؤلف من أربع ضربات، وإنما ينتقل منه إلى أنماط غير مألوفة أكثر تعقيداً، كذي الخمس والسبع ضربات. هنا، قد وُلدِت الحلول الإبداعية من رحم الضرورة الشعرية؛ فعوضاً من أن يطلب المُلحّن من الشاعر، كما جرت العادة، تكييف المفردات لتنصاع إلى وزن رباعي بسيط، انبرى المُلحن ليضع ألحانه على أوزان مُركبة تكيّفاً مع الكلام.
انطلاقاً من نجاح الأغنية الباهر، صار التنوّع الوزني علامة باكاراك المسجلة. علامة، تمكن من إحداثها بسلاسة طبيعية، نتيجة تمكّنه من موسيقى الجاز القائمة أصلاً على التركيب الوزني، خصوصاً في فترة الخمسينيات والستينيات، أو ما يُعرف بجاز الـ Bob. أثّر ذلك في المشهد العام لأغنية البوب من بعده، وساعدها على الانتقال من مُجرد موسيقى قائمة على أشكال بسيطة أُنتِجت بصورة يسهل معها الرقص على أوزانها في الحانات والملاهي، إلى موسيقى سماع تستهوي الأذن، لقدرتها على الصدم الشعوري، عبر كسر أطر الرتابة الإيقاعية.
أغنية أخرى طبعت تاريخ الموسيقى الترفيهية، من كلمات ديفيد وألحان باكاراك، هي I Say A Little Prayer سجّلت نُسختها الأولى فارويك سنة 1967، مُعزّزة من حضورها ببلوغها الرتبة الرابعة على لائحة بيلبورد لأكثر 100 أغنية رواجاً، ولأكثر من 13 أسبوعاً على التوالي. إلا أن سحر الأغنية لم ينجلِ إلا بعد عام، حين أصدرت المغنية الخارقة للطبيعة آريتا فرانكلين (Aretha Franklin) نسختها الخاصة منها.
لقد أقرّ كل من باكاراك وديفيد في أكثر من مناسبة، بأن فرانكلين قد بلغت بالأغنية أفاقاً لم تدركها فارويك. السلاسة منقطعة النظير، التي عبرت بها من وزن رباعي، أربع ضربات، إلى ثلاثي، ثلاث ضربات، ثم رباعي مرة أخرى، جعلت من الألحان تنساب عبر الحنجرة إلى الآذان، فيما هي غافلة عن حجم التعقيد، سواءً في الشكل أو في الطريقة التي صيغت بها أدوار الآلات المصاحبة، من بيانو، غيتار وكونتراباص، بالإضافة إلى جوقة المساندة النسائية.
لعل بيرت باكاراك لم يقلّ يوماً موهبة أو اقتداراً عن أي من أساطين الفن الرفيع، أعلام الموسيقى المنضوية ضمن فئة الجاز أو الكلاسيك، الغابرة منها والمعاصرة، تلك التي تتوجه بشكل رئيس نحو النخبة، تنأى عن تلبية متطلبات السوق، عن تحقيق الأرباح، وعن مواءمة الذائقة العامة، سعياً إلى كسب مزيد من الجماهيرية. لكنه سلك طريقاً ثالثاً، أمّن لنفسه رخاء العيش ونعيم الشهرة، من دون أن يتخلّى عن معايير الفن الرفيع، وذلك بتحويل صنعة تلحين الأغنية الرائجة إلى مخبر خفي للتجريب والإبداع.
بهذا، نجح في تورية كمّ المعرفة الموسيقية وحجم الجهد المخبري الذي كان يبذله حيال كل لحن يضعه، بشكل أبقى على سمة الخفّة والبساطة. هكذا، ظلّت أغانيه تصل بسرعة ويسر إلى آذان الناس، تعتلي لوائح الأكثر رواجاً وتتربع على قمم الجوائز العالمية. كما أنه أسهم، لعله من حيث لا يدري، في رفع سوية الذائقة العامة لدى الطبقة الوسطى الصاعدة زمنَ الستينيات والسبعينيات، من خلال تقديمه مُنتجاً فنياً رفيعاً، خلق تحدياً أمام الأصوات المعروفة في عصره، مثلما خلق تنافساً بينها، وحفّز مبادرات الإنتاج والابتكار لدى الملحنين وكتاب الأغاني الآخرين، فاستحق من بينهم، لقب مُلحّن السهل الممتنع.