"بغداد تثور"... مشاهد سينمائية ديناميكية من ساحة التحرير

11 يونيو 2023
توثيق جانب من جوانب الحراك الشعبي في العراق (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

تطرح مُشاهدة "بغداد تثور" (2023)، للعراقي المقيم في النرويج كرار العزاوي، كغالبية الأفلام الوثائقية الراصدة حدثاً دراماتيكياً آنياً، السؤال الإشكالي نفسه: أينبغي التريّث والانتظار لتوثيقه، ريثما تنضج في ذهن السينمائي، المعني برصده، الصورة كاملة للظروف المحيطة به والعوامل المؤثرة فيه، ليبلغ العمل السينمائي مستوى طموحه، وما يتناسب مع أهميته، جمالياً وفكرياً؟ أم عليه توثيقه لحظة حدوثه، وتغليب آنيّته على الاشتراطات الفنية، التي رغم أهميتها الحرفية ربما يعيق الالتزام بها إنجازاً له صلة بوظيفة السينما الوثائقية، المنفتحة على أساليب سرد متنوّعة الأنساق، بعضها يتوافق ويجيز عجالة في الإنجاز، ما دامت هناك كاميرا متطلّبة وحريصة على الإمساك باللحظة الحرجة، التي تريد أن يتشارك معها الناس في رؤية تفاصيلها النادرة؟ أليس هذا ما حدث في أفلامٍ كثيرة وثّقت "الربيع العربي"؟

يحسم كرار العزاوي موقفه، ويشرع قبل غيره في توثيق جوانب من الحراك الشعبي في العراق، المعروف بـ"انتفاضة تشرين" المنطلقة بعفوية عام 2019. يكلّف المصوّرين حسين مناف وبشير سلمان النزول مع الجموع في ساحة التحرير، مركز الحراك في بغداد، وتصوير ما يجري هناك. في غرفة المونتاج، يُكرّس وقتاً أكبر للعمل مع مورتن هاسلَرود على توليف الخامات التصويرية الآتية من بغداد، ليُركّب منها النرويجي، بمهارة، مَشاهِد سينمائية ديناميكية، تلازمها موسيقى تصويرية مؤثّرة (سيمون فالنتين ونوار النداف).

لعرض سعة المشهد العام للانتفاضة، المشحون بالانفعالات والتوترات، ومنحه بُعداً درامياً قابلاً للسرد، لا يستقيم الاشتغال السينمائي الوثائقي من دونه، يختار صانعه، من بين الحشود، 3 شباب تطوّعوا مسعفين للمصابين والجرحى من المتظاهرين السلميين: طيبة فاضل، وهي شابة تنفرد بانفتاحها وعفوية التعبير عن مشاعرها، ومعها خضر طه ويوسف ستار الذي لا تفارق الكاميرا يديه. حضورهم الطاغي في المشهد، المنقول من ساحة التحرير، يضفي روحاً شبابية على الحراك، ويعكس حماسة في تغيير الواقع البائس الذي يعيشونه، ويريدون بديلاً له، لا تَزيد اشتراطات تحقيقه عن حقوق إنسانية وسياسية بسيطة، لا تتعدّى بساطة طموحاتهم في عيش حياة سوية.

ما يواجهه حراكهم من عنفٍ سلطوي دموي لا يتناسب مع مطالبهم، فيغدو، من أجل هذا المشهد، متناقضاً ومتعسفاً، ويفضي إلى وجع يحسّ به القادمون إلى ساحة التحرير، والمخيّمون فيها. أسئلتهم، المطروحة فيما بينهم ومع غيرهم، ملتاعة. لا يعرفون لماذا تواجههم السلطة الفاسدة بمليشيات مسلّحة وملثمة، لا تكشف عن وجهها. تطعنهم بالسكاكين، وتطلق النار عليهم.

كلّ مدّة "بغداد تَثور" (65 دقيقة)، ومن بين الحشود المضطربة جرّاء مواجهات وتصادمات، تحاول الكاميرا، رغم اهتزازاتها، فتح مجال لها وسط الدخان الكثيف المتصاعد من قنابل الغاز المسيل للدموع، لتبقى قريبة من المتظاهرين ومن طيبة، فهذا مدخلها الحيوي إلى عرض التشابك الحاصل بين العام والخاص.

لا ترى طيبة فاضل في الحراك خلاصاً لبلدها فحسب، بل تخلّصاً من آثار ماض شخصي مؤلم. تحكي عن تجربة زواجها في سنّ الـ14 من رجل أذاقها العذاب. تطلّقت منه، ووجدت نفسها بعد أعوام في انتفاضةٍ تنشد تحريراً حقيقياً لها، ولغيرها من أبناء بلد ابتُلِي بالخراب والفساد والتخلّف. لحظة المصارحة الحميمية القصيرة ـ بمحمولاتها النفسية والاجتماعية، وشدّة ارتباطها بالظرف السياسي الذي نشأت فيه، وتزامنها مع احتلال العراق، والعنف الذي صاحبه ـ كان لها أن تمتد أطول، وتُشبَّع بعمق، لو ذهبت معها الكاميرا إلى أبعد من ساحة التحرير، أي إلى فضاءات خارج النقطة المركزية، كما فعل البرازيلي الجزائري كريم عينوز في وثائقيه "نرجس. ع" (2020). ظلّه يرافق من قرب الشابة نرجس في مشاركتها في الحراك الشعبي، المنطلق في الجزائر يوم جاء للعمل على فيلمٍ آخر. استغلّ الفرصة، وراح يصوّر التظاهرات الحاشدة بهاتف محمول. لم يكتفِ بوجودها بين الحشود، بل راح معها إلى الحيّ الذي تقيم فيه، وتعرّف على جانبٍ من حياتها الشخصية. أعطى الجانب الشخصي فيلمه عمقاً وبُعداً درامياً مؤثّراً.

يُقابل ذاك التأثير الدرامي في "بغداد تَثور" مقتل الناشط المصوّر يوسف ستار، في ساحة التحرير في بغداد، قرب جسر محمد القاسم، برصاص مجهولين، في الاحتجاجات. موت يشيع حزناً على مشهد سياسي اعتلاه فرح وأمل بتغيير، لكنّه ظلّ يبطّن خوفاً من خذلان، لم يغب عن عين الكاميرا. تأجّل الإعلان عنه صراحة إلى حين. وفي اللحظة المؤلمة، طفح. هذا لن يلغي أملاً ولا رغبة عندهم في استعادة وطن نُهب منهم وتفتّت. اختصروا حلم استرجاعه بجملة واحدة صادقة: "نريد وطناً".

المساهمون