تستكمل منصة نتفليكس بث الجزء الثاني من السلسلة الوثائقية الدرامية "بزوغ الإمبراطورية: العثمانيون"، التي روت في جزئها الأول الحكاية الملحمية الكاملة لواحدة من أهم حروب الدولة العثمانية: احتلال القسطنطينية التي أدرك فيها السلطان الشاب أن السيطرة عليها تعني السيطرة على العالم، لتكون منعطفاً مهمّاً في تاريخ هذه الإمبراطورية، وتغير شكل العالم لثلاثة قرون.
يحاول صنّاع السلسلة الموازنة بين الروح الأكاديمية التأريخية في عرض الأحداث التي جاءت على لسان مؤرخين وأكاديميين أتراك وأجانب، والمشاهد التمثيلية التي حاكت الطبيعة والثقافة، وحتى اللكنات، وإن كانت اللغة الرسمية فيها الإنكليزية، وأضفت طابعاً إنسانياً- وإن جاء قليلاً- على حساب الموضوع، للضرورات الدرامية والتشويقية على امتداد حلقات السلسلة التي تنتمي إلى الدراما الوثائقية.
تتعدد الروايات التاريخية بتعدد الرواة من أكاديميين وباحثين ومؤرخين، فضلًا عن الراوي الرئيسي في خلفية العمل، ويعتمد أسلوب تداخل الأزمنة في سرده للأحداث التي أسست لحكاية الجزء الثاني من السلسلة الوثائقية بغزو محمد الفاتح لإمارة الأفلاق (رومانيا حالياً)، المتأرجحة في ولائها بين إمبراطوريتين: المجر والإمبراطورية العثمانية الحالمة بالتوسع.
بهذا، رهن الأمير فلاد دراكولا الثاني ابنيه فلاد الثالث ورادو للسلطان مراد، إثباتاً منه لولائه الذي سرعان ما يتبدل، ليعفو السلطان مراد عن الأخوين مقابل ولائهما الأبدي، وليؤسس بعفوه هذا لملحمة تاريخية، كتبت بالدم والنار والبارود، وشهدت عليها نهايات العصور الوسطى.
يتربى فلاد دراكولا بصحبة السلطان محمد الثاني المعروف باسم محمد الفاتح، وتنشأ بينهما علاقة مركبة مبنية على التناقضات التي عاشها دراكولا في بلاط السلطان العثماني، فبعد خذلان أبيه له وللسلطان، وبعد قمع التمرد الذي قام به فلاد الثاني، يولى فلاد الثالث حاكماً وأميراً لإمارة الأفلاق مع الولاء المطلق للإمبراطورية العثمانية، ويبقى شقيقه رادو مع الحاشية المقربة للسلطان محمد الفاتح في ما بعد.
وفي مشهد تمثيلي، نرى القلعة التي أعدم فيها محمد علي باشا المماليك في قلعة القاهرة. هناك، يجمع فلاد خصومه السياسيين على مائدة واحدة، لكنّه أعدمهم بـ "الخوزقة" بعد إعلانه عن عدم نيته الخضوع للإمبراطورية العثمانية. يسهب المؤرخون بشرح طريقة الخوزقة بتفاصيلها، وهذا ما عزاهم إلى تسميته بـ "فلاد المخوزق"، إذ اعتبروه دموياً حتى بمنظورالعصور الوسطى، فرواية دراكولا التي كتبت خلال القرن التاسع عشر اتكأت على هذه الشخصية التي ارتكبت المجازر.
بذلك، يطرح فلاد دراكولا نفسه خطاً أوّل للدفاع عن العالم المسيحي الذي يشعر بتهديد السلطان الشاب، إذ أعلنها صرخة تمرد في عاصمة أفلاقيا تارغوفيشت، ليصل صداها إلى بلاط السلطان، ويحاول الأخير تجنب الحرب باعثاً رسله لثني الأمير المتمرد عن عصيانه، لكنّه يأبى ويرتكب فظاعات بحق رسله وحتى حاشيته، إذ قطع أذن حمزة بيك والد زوجة السلطان، وقتله في ما بعد، ليجر العثمانيين إلى مواجهة محتومة على ضفاف الدانوب، بمباركة البابا ودعم المجريين الذين راهن عليهم فلاد كثيراً.
لم يلمّع الوثائقي السلطان محمد الفاتح، ولم يعظم من صنيع فلاد دراكولا، ولم تمتد تلك اليد الهوليوودية العابثة بالتاريخ والمنمطة لكل ما هو مشرقي، ليكتفي بعرض الأحداث على لسان الأكاديميين، إلى جانب المشاهد التمثيلية، مع الحفاظ على الشرط الإنساني وبعض المبالغة الدرامية، ليكتمل العمل فنيّاً ويتجنب اتهامات المغالطات التاريخية.
تكشف السلسلة عن عبقرية عسكرية ونظرة استراتيجية تمتع بها السلطان في جزأيه، بل هو أعطى طابعاً حداثوياً على المصطلحات العسكرية، كحرب العصابات، للإشارة إلى خطة دراكولا في مقاومة جحافل العثمانيين، والقوات الخاصة كإشارة للانكشاريين الذين حسموا المعارك التي رويت حيثياتها بدقة. ابتداءً من اجتياح الدانوب وصولاً إلى تخوم العاصمة تارغوفيشت، تروي السلسلة يوميات المعركة، وتستخدم كل التقنيات البصرية والصوتية الممكنة لتصور فظاعة الحرب التي دارت رحاها على تلك الأرض.
في ظل سيطرة الرجال على سرديات التاريخ، تعددت الروايات عن دور محوري لعبته المرأة في الحرب، إذ أبرزت مارا خاتون أو الأم مارا حامية للعرش على امتداد جزأي السلسلة، كما حافظت على حياة غلبهار خاتون زوجة السلطان من محاولات الاغتيال من عملاء دراكولا داخل الحرملك، ولم يقف العمل عند مشاهد الحرملك الطويلة؛ ففي الإنزال الذي قاده الأمير رادو أخ الأمير فلاد وحليف الأمير محمد خلف خطوط الأفلاقيين لعبت أنستازيا واحداً من أجمل مشاهد العمل بعد وقوعها في الأسر.
لا تقل الشخصيات الثانوية أهمية عن أبطال العمل، فهذا محمود بيك يؤجج صراعاً نفسياً داخل رادو المتحالف مع السلطان ضد أخيه الأمير، ورغم شراسته بالقتال وقيادته للانكشاريين، يكشف التاريخ عن جانب إنساني في قصائد الغزل التي ألقاها على مسامع الأمير، وهذا الأمير رادو الذي وجد نفسه بيدقاً في لعبة أكبر جذب انتباه المشاهد طيلة العمل بأن الاختراق الأمني أو الخيانة ستأتي من جانبه. أعطى الرواة تحليلاً نفسياً لتناقضات النفس البشرية، وأسهبوا في التحليل الجيوسياسي للحكاية، فلونوا العمل الفني بالضرورات الإنسانية وأعطوه وجوهاً متعددة التأويل، تاركين المشاهد يجيب عن أسئلته بنفسه.