برلين Musikfest... وصولاً إلى قاع الأشياء

24 سبتمبر 2023
التخت الموسيقي النسائي لأمسية Persien II (موقع المهرجان)
+ الخط -

طَبَقان موسيقيّان مميزان، من بين أطباق أخرى عديدة، على موائد هذا العام من مهرجان الموسيقى الكلاسيكية للعاصمة الألمانية Musikfest، الذي تُنظمه مؤسسة المهرجانات البرلينية Berliner Festspiele. إنهما ماهلر والموسيقى الإيرانية.

يُنظر إلى النمساوي غوستاف ماهلر (1860-1911) على أنه قُطبٌ من أقطاب الرومانسية المتأخرة؛ إذ إن أبرز أعماله السمفونية، وإن خرجت إلى النور قُبيل رحيله، وقبل الحرب العالمية الأولى ببضعة سنين، حافظت على جماليات الحقبة الرومانسية الماضية، لجهة توظيف البنى الهارمونية الأشد درامية في الموسيقى السُّلّمية، من دون الخروج التام عليها.

من هنا، فإن ماهلر من خلال تمسّكه بلغة القرن التاسع عشر، والعمل على أخذها إلى حدودها التعبيرية القصوى، ظلّ في الظاهر مُحافظاً، أي كلاسيكياً بين أقرانه الحداثيين من المؤلفين المجدّدين مطلع القرن العشرين. أما الباطن، فقد كان تقدميّاً، يُنتج بأدوات الماضي موسيقى ثورية.

قدّم المهرجان سمفونيّتين لماهلر. السابعة، وبها افتُتحت نسخة العام في السادس والعشرين من الشهر الماضي. أدّتها أوركسترا الكونسرت خيباو أمستردام الهولندية، بقيادة الهنغاري إيفان فيشر. بعدها بيومين، قُدِّمت التاسعة، بأداء أوركسترا لندن السمفونية، وبقيادة البريطاني سيمون راتل.

أما في اليوم ما قبل الأخير من الشهر، فقدّمت الأوركسترا السمفونية الألمانية، بقيادة البريطاني روبن تيكياتي "أغنية الأرض". وهي سلسلة أغان صُمّمت داخل بنيان سمفوني. من خلاله، لحّن ماهلر قصائدَ من نظم الشاعر الألماني هانز بيتغه Hans Bethge (1876-1946). غنّتها كل من الاسكتلندية كارن كارغيل، والبريطاني ديفيد بات فيليب.

لعلها رغبة منظمي المهرجان في توسيع المجال الدلالي لمصطلح "موسيقى كلاسيكية"، وذلك في مسعى إلى عولمته، فالخروج به من تحت أحادية مظلة الهويّة الأوروبية. ما حدا بهم إلى إدراج أمسيتين بعنوان فارس 1 وفارس 2، (Persien I, II)، قُدِّمت فيهما الموسيقى الإيرانية بآلاتها وتشكيلاتها التقليدية.

أسوة بنظيرتها الغربية، وكغيرها من الثقافات الشرقية، كالعربية والتركية والهندية، التي ورثت حضارات عريقة أنشأت ممالك وإمبراطوريات عتيدة، تستمد موسيقى التخت في إيران جذوراً لها من البلاط والمؤسسة الثقافية المنضوية تحته. هناك حيث تشكّلت وفق قواعد وأسس، أنتجت معايير، تبلورت تقاليد بمرور الزمن، حتى صارت تُعرف محليّاً بكلاسيكية.

ثاني الأمسيات الإيرانية، Persien II، استضافتها القاعة الكبرى الرئيسية لصالة برلين الفيلهارمونية. على خشبتها، قدّم التخت الموسيقي النسائي ماه بانو، بحضور عازفٍ على آلة التار الوترية، باقة من الأغاني الإيرانية الشائعة، ضمن ديكور مسرحي سياحي الطابع، استقدم معه إلى الصالة الأثاث والأزياء الإيرانية.

الأمسية الأولى Persien I، وبـ "لقاء غربي شرقي" (West-östliche Begegnung) كعنوان تحتي، فكانت من نصيب القاعة الصغرى المُخصصة لموسيقى الحجرة. استُهلّت بقسم أوّل، مقطوعة لثنائي آلتي كمان وكونترباص، ذات طابع استشراقي، ألفها الألماني فولفغانغ فون شڤاينيتس (Wolfgang von Schweinitz) عنوانها My Persia، وأدّاها كل من النرويجي هيلغه سلاتو، والألماني فرانك راينيكه.

أما القسم الثاني فقد حظي بعرض متميّز لجهة النوعية، والحضور الفني، والكمون التعبيري، أحياه ثنائي موسيقي يضم كلّاً من الإيرانيين، مجيد قادياني، منفرداً في البداية على آلة السيتار الوترية، ثم التار، الوترية أيضاً، بصحبة نيلوفر مُحسني على آلة التومباك الإيقاعية. من خلاله، قدم الزوج الموسيقي ارتجالات مُرسلة، استلهاماً لألحان وأغانٍ إيرانية معروفة.

على الرغم من الاختلاف الشاسع في السياق الثقافي والحقبوي، اللغة الموسيقية والوسائل التقنية، تلاقى كلٌّ من سمفونيات ماهلر وارتجالات قادياني ومحسني عند نقطة، ألا وهي العاطفة؛ إذ سعى قادياني ومحسني، كما سعى ماهلر، كلٌّ بأدواته، على حد تعبير الأخير في إحدى رسائله الشهيرة إلى صديقه المؤلف ماكس مارشالك إلى "الوصول إلى قاع الأشياء". وذلك عبر الضرب، برقّة حيناً وحيناً بشدّة، على وتر القرار عميقاً في النفس، حيث يتجاوز وسيط التعبير الموسيقي، البنى والمفاهيم اللغوية التي يُنشئها الذهن، فيتوجّه إلى العاطفة، بوصفها شريكاً أساسياً في تكوين وعي الإنسان.
 
تلك النقطة العابرة للهوية، كانت قد أشارت إليها الفيلسوفة الأميركية مارثا نوسباوم، في كتابها المفتاحي عن العاطفة، "تضاريس الفكر" (The Upheavals of Thought) حين كتبت أن "لعل الموسيقى عالمية الأثر. بمعنى أن شعوباً تفصلها عروض شاسعة من ثقافة ولغة، بمقدورها حب الموسيقى ذاتها. الكمون التعبيري للموسيقى اليابانية أو الهندية، على سبيل المثال، والإيرانية في سياق هذا المقال، لهو مدهش بالنسبة إلى الأذن الغربية. كذلك هو الأمر عند سماع سمفونية لماهلر، من دون الإلمام بسمفونياته الأخرى". 

موسيقى
التحديثات الحية

بالنسبة إلى ماهلر، شكّلت الكتابة الأوركسترالية عالية الكثافة، المُفاعل الصوتي بغية إنتاج الكمون التعبيري موسيقياً. كان ذلك في فترة لم تكن فيها السينما، كما هي اليوم، قد نضجت تكنولوجياً بعد، كعنصر إبهار للمتلقي وأداة استئثار بخياله وخوالجه. لذا طُوِّرت على يديه، ومن قبله المؤلف الألماني ريتشارد فاغنر، قدرات الأوركسترا، لجهة الطاقة الصوتية، والمعالجة الهارمونية، والتوزيع الآلي، على الصدم الشعوري. هكذا، حين كتبت فتاة في العاشرة رسالة تسأله فيها عما إذا كانت الكتابة لأوركسترا كبيرة الحجم ضرورية، أجاب ماهلر: "ثمة بعض الأفكار العاطفية تسعى إلى تشكيلات موسيقية معينة".

في المقابل، وفي الموسيقى الشرقية عموماً، والإيرانية في هذا السياق، يلعب المقام الشرقي من خلال بُعيْداته النغمية، أي ما يُعرف دارجاً بـ"العُرْبة"، أو الربع تون، الدور الأكثر تفرّداً في الاستثارة الحسية عبر وسيط الصوت، وبمجرّد آلة منفردة أو حنجرة وحيدة.

وعليه، التأثير بالعاطفة، تجاوزاً للذهن، مروراً بالمفاهيم والمفردات، وصولاً "إلى قاع الأشياء". ذلك أن الطبيعة اللاخطيّة واللامعيارية للبُعيد، تمنحه ذلك التموضع البرزخي ما بين الراحة وبين القلق، بين اليقين وبين الشك، بين المطلق وبين النسبي؛ إذ عنده، تقف الكلمات عند حدود معانيها.

المساهمون