رغم علاقات التلاحم والمُصاهرة والجوار، إنسانياً وتاريخياً وحدودياً، بين مصر وفلسطين، فإنّ علاقة السينما المصرية بفلسطين، والقضية الفلسطينية عامة، علاقة خاصة جداً، تُثير دهشة وحيرة، وإزعاجاً أيضاً. ليست علاقة هجر كُلّي، نتيجة موقف مُسبق أو خلافه؛ ولا احتضان كامل، نتيجة إيمان عميق بضرورة أو حتمية مصير مُشترك. يُمكن تلخيص التناول المصري لفلسطين والقضية الفلسطينية، في عقودٍ، بأنّه "ظاهرة"، كغيرها من الظواهر في تاريخ السينما المصرية، التي تُطرح وتُعالَج، عادةً، بتفاعل لحظيّ حماسيّ عاطفيّ سطحيّ، يفتُر ويخبو سريعاً، ثم يُنسى غالباً. لذا، سادت الخطابية والمُباشرة والحماسة، المُرتكزة على شعارات رنّانة أساساً، تناولت القضية بشكل لا يُساهم في توضيحها وتبيان تعقيداتها، مع غياب شبه كلّي لأيّ طموح فكري وفني، أو اهتمامات جمالية. أبرز الأمثلة الحديثة على هذا التناول النكبويّ للموضوع، الانتفاضة الفلسطينية، وقضية التطبيع.
التاريخ المأساوي لفلسطين ومُفرداته، الإنسانية والاجتماعية والثقافية والعسكرية، ومصير هذا الشعب، لم تُشغل كلّها بال سينمائيين مصريين كثيرين، ولم تُحفّز خيالهم، في عقودٍ عدّة، بحثاً وتمحيصاً وكشفاً للحقائق، لأسباب سينمائية كثيرة جدًا، أوّلها الرقابة، ثم التوزيع، والإنتاج طبعاً، إذ يُفكِّر المُنتِج، دائماً، في الجدوى التجارية، ومردود شبّاك التذاكر، وضمناً إمكانية التوزيع داخلياً وخارجياً، في ظلّ مشاكل سياسية ومعوقات ومحاذير كثيرة. لكنّ الأساسيّ في الأمر أنّ السينما المصرية، كصناعة وتوجّه، غالباً، كانت وما زالت وسيلة سياسية خاضعة لمزاج السلطة المصرية، أو مُعبّرة عن توجّهاتها، وليس مزاج المجتمع المصري، وتوجّهاته ومُتطلّباته.
رغم سهولة تفنيد أسباب التقصير ومُعالجتها، في ضوء مُتغيرات العصر، والمستجدات والمعطيات الحديثة، ووفرة الأدوات، إلاّ أنّنا، عربياً ومصرياً، لسنا هواة تفنيدٍ، ومُساءلة التاريخ، والبحث عن حقائق. نخشى بشدّة كشف المسكوت عنه وفضحه، وتبيان أوجه التقصير. لذا، في ما يتعلق بـ"نكبة 48"، هناك صعوبة دائمة في إدانة الجيوش العربية، أو تخطئة الملك المصري فاروق، أو الملك الأردني عبدالله الأول، أو مفتي فلسطين أمين الحسيني، أو حتى أمين الجامعة العربية آنذاك عبد الرحمن عزام. ترتَّبَ على ما سبق جهلٌ مُطبق لدى الأجيال الجديدة بالقضية الفلسطينية عامة، وأسباب وحقيقة ما جرى فعلياً في تلك النكبة، وما تلاها من حروب ونكبات أخرى، صُغرى وكُبرى. ناهيك عن معنى التطبيع وأهدافه.
لذا، لم يكن غريباً ابتعاد الأفلام التي لامست هذا الموضوع الشائك عن كلّ جدّية وعمق وجرأة، خشية العواقب. كذلك، الابتعاد عن تناول بعض الإيجابيات، الصالحة درامياً، كبطولات الجيش المصري في بعض معارك حرب 48، بشهادة الإسرائيليين أنفسهم: معركة الفالوجة، وكيفية فكّ الحصار عن الجيش المصري حينها. الغريب أنّه، في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر، ومع حالة الفوران العروبي، لم يتحمّس من حوله، أو يخطر ببال أحدهم وضع خطّة مُكثّفة لإنتاج أفلامٍ، روائية أو وثائقية، عن حرب الـ48، وتضحيات الجيش المصري والجيوش العربية، والنقاط المُضيئة فيها، لا سيما الفالوجة، التي حوصر عبد الناصر نفسه فيها.
حتّى عندما ركَّزت السينما المصرية على قضية معيّنة، لم يمتدّ التركيز آنذاك إلى أبعد مما أطلق عليه إعلامياً قضية الأسلحة الفاسدة، وما تبعها من مُحاكمات قضائية، أسفرت لاحقاً عن كونها محض مزاعم، لم تُثبت صحتها، وكيف أنّها، في النهاية، لم تكن سبب هزيمة الجيش المصري والعرب في تلك الحرب/النكبة. هذا الموضوع، قضية الأسلحة الفاسدة وفساد الملك والقصر، موجودٌ في "أرض الأبطال" (1953) لنيازي مصطفى (تمثيل كوكا وجمال فارس وعباس فارس وعزيزة حلمي): تدور أحداثه في أجواء حرب الـ48، مع صدمة يتعرّض لها شابٌ عندما يعلم أنّ والده الثري قرّر الزواج من الفتاة التي يُحبّها، ما يدفعه إلى التطوّع في الجيش، والاشترك في الحرب. في غزّة، يلتقي فتاة فلسطينية، فيحبّها ويقرّر الزواج بها. الأب يورّد أسلحة فاسدة إلى الجيش، تكون سبباً في فقدان الابن بصره في عملية عسكرية.
هناك أيضاً "الله معنا" (1954) لأحمد بدرخان، الذي يتناول قضية الأسلحة الفاسدة، وكيفية إصابة النقيب أحمد (عماد حمدي) ورفاقه. يتّضح لاحقاً أنّ عمّه الثري عبد العزيز باشا (محمود المليجي)، ووالد حبيبته نادية (فاتن حمامة)، فاسدون، فهم من كبار مورّدي الأسلحة الفاسدة إلى الجيش. تُبتَر ذراع أحمد في المعارك بسبب تلك الأسلحة، فيعود بعد الحرب مُصمّماً على مُحاربة الفساد وكشف الخونة، بمساعدة الصحافي محسن (شكري سرحان). تتوالى الأحداث، وتقوم "ثورة يوليو" (1952). في النهاية، يموت عبد العزيز باشا بقنبلة فاسدة، ألقاها على القوات الأمنية، مُحاولاً مقاومة القبض عليه.
بخلاف هذه القضية تحديداً، تردّد اسما فلسطين وغزّة في سياق حرب الـ48، التي اتّخِذَت ذريعة وخلفية للأحداث الدرامية، من دون التطرّق والمناقشة الصريحة والعميقة لأسباب الحرب، وما جرى فيها، ولتبعاتها. فالغرض منها استعراض بطولات، وتمجيد من استُشهِدَ، في سياق دراما اجتماعية عاطفية أساساً، كما في "فتاة من فلسطين" (1948) لمحمود ذو الفقار، مُخرجاً وممثلاً: قصّة حبّ وزواج بين فتاة فلسطينية وطيّار مصري، سقطت طائرته خلف خطوط العدو، في حرب الـ48. على النهج نفسه تقريباً، مع اختلاف طفيف، سار فطين عبد الوهاب في فيلمه الأوّل، "نادية" (1949، تمثيل شادية وشكري سرحان)، الذي لم يتناول الحرب/القضية الفلسطينية، بل تحدّث عن سقوط أوّل شهيد مصري في "حرب فلسطين".
إضافةً إلى "شياطين الجوّ" (1956) لنيازي مصطفى (تمثيل أحمد رمزي وعبد السلام النابلسي وآمال فريد وشكري سرحان): يتناول قصص أحمد وعنتر وماركوني وعواد ومختار، "ميكانيكيّة" طيران في "مطار الماظة الحربي"، وأصدقاء مُقرّبين. يُكلَّف أحمد ومختار بتنفيذ مهمّة استطلاعية خلف خطوط العدو. يتعطَّل محرّك الطائرة، فيضطرّ قائدها للهبوط فى أرض العدو. يُقبض عليهم، ويُستجوبون ويُعذّبون. يُقتل قائد الطائرة، وعندما يثور مختار يُقتل أيضاً، فيخطف أحمد الرشاش، ويقتل الجميع، ويفرّ هارباً فى الصحراء، قبل أنْ تعثر عليه طائرة بحث. يُقرّر أحمد الانتقام لمختار، بالتطوّع فى فرقة المظلاّت. وكذلك ماركوني وعنتر. يلتقون في المعركة، ويبلون بلاء حسناً. تنجلي العُقدة وتنحلّ، مع نهاية سعيدة، قليلاً.
فيلمٌ آخر بعنوان "وداع في الفجر" (1956) لحسن الإمام، كاتب السيناريو والحوار مع كمال الشناوي، الذي يؤدّي دور أحمد، ضابط طيّار يدرس في الكلية الجوية، ويعيش مع والده الثريّ، الراغب فى تزويجه ابنة شريك أعماله. يتلقّى أحمد خطابات غرام من عاشقة مجهولة، يكتشف أنّها زينب (شادية)، الفتاة الفقيرة التى تمتُّ له بصلة قرابة بعيدة. يتحوّل قلبه إليها، ويقرّر أنْ يتزوّجها، رغم مُعارضة والده. ثم يُستدعى إلى فلسطين لمحاربة الصهاينة. تسقط طائرته في مناطق العدو، ويُؤسَر، ويُعلَن اسمه فى عداد المفقودين. بعد ذلك، تستلم زينب خبر وفاته رسمياً، فتُصدَم وتُشلّ ساقاها. ثم تتزوّج جارها المُدرّس. ينجح أحمد فى الهرب، ويعود إلى بيته، ليعلم بالأمر، وتتعقّد الأحداث أكثر. يُذكر أنّ محمد حسني مبارك، مُدرِّس الطيران في الكلية الجوية آنذاك، يظهر في الفيلم.
أما "أرض السلام" (1957) لكمال الشيخ، فيُعتبر أفضل ما قدّمته السينما المصرية، آنذاك، عن فدائية المصريين في فلسطين. تدور أحداثه في فترة العدوان الثلاثيّ على مصر (1956)، وتبيان قسوة الاحتلال الصهيوني ودمويته، عقب مجزرة دير ياسين، وسرقة الصهاينة الطعام والشراب والحيوانات من الفلسطينيين، وكيفية مُقاومة المصري والفلسطيني معاً، مع مُحاولة الاقتراب أكثر من المُجتمع الفلسطيني، واستخدام اللهجة قدر الإمكان. هذا كلّه مع قصّة حبّ بين الفلسطينية سلمى (فاتن حمامة) والفدائي المصري أحمد (عمر الشريف).
يتناول "طريق الأبطال" (1961)، لمحمود إسماعيل، قصة حمدي (شكرى سرحان) الرائد في القوات المسلّحة، وابن عمه الملازم ممدوح (صلاح ذوالفقار)، العائد من الجبهة، بعد انتهاء فترة خدمته هناك، وانضمامه إلى وحدة حمدي، بقيادته. قصّة حبّ حمدي مع نور (هند رستم)، الأرستقراطية الثرية والمُتحرّرة واللاهية، واعتراض والدته وشقيقته، وصدمة حمدي، ثم قيام حرب فلسطين، واضطراره للتوجّه إلى جبهة القتال، مع ممدوح. لاحقاً، تتغيّر شخصيّة نور وحياتها، فتتطوّع في الهلال الأحمر، وتسافر إلى فلسطين لمُساعدة الجرحى، فتلتقي حمدي وممدوح. هناك، يقرّر حمدي العودة إلى نور، لكنّ اليهود يُطلقون الرصاص عليه، فيستشهد بين يديها.
في "صراع الجبابرة" (1962)، لزهير بكير، هناك فريد (أحمد مظهر)، شاب ثري يُغرم بالراقصة اليهودية ليليان (نادية لطفي)، التي تُسافر إلى فلسطين. تتعقّد الأحداث، ويهرب فريد إلى حيث ليليان. أثناء ذلك، يُهاجم اليهود قرية عربية، فيهبّ لنجدتها جنودٌ مصريون، يأسر اليهود بعضهم، وبينهم فريد. حينها، يلتقي ليليان. يطلب قائدٌ إسرائيلي منها إغراء فريد لمعرفة أخبار المصريين، لكنها تفشل. فيأمر القائد بإعدامها مع الأسرى، ما يدفعها إلى تدبير هروبهم. تنشب معركة حامية. في النهاية، يُنقذهم طيار مصري عند الحدود.
أخيراً، "الأقدار الدامية" (1982)، أول روائي طويل يُخرجه خيري بشارة (تمثيل نادية لطفي ويحيى شاهين وأحمد زكي وأحمد محرز): تناولٌ مختلف لحرب الـ48، والصراع العربي الصهيوني، وانعكاس ذلك على المُجتمع المصري، في إطار اجتماعي عاطفي سياسي، اتّخذ القضية والصراع خلفية للأحداث، كغيره من الأفلام. مردّ ذلك إلى أنّ الفيلم مُستوحى من مسرحية "الحداد يليق بإلكترا"، للكاتب والأديب الأميركي يوجين أونيل.