خلال السنوات العشر الماضية، تراجع الحديث عن مواقع التواصل في الإعلام من اعتبارها أدواتٍ جديدة للتغيير (خصوصاً مع الربيع العربي)، والتطوير (الإنترنت كجزءٍ من الأولويات في حياتنا اليوم)، والجرأة (خصوصاً في قضايا السياسة والمعارضة وحقوق الإنسان، وعلى وجه التحديد قضايا النساء)، والسرعة (في نشر الخبر أو الحدث وإيصاله والتعامل معه عالمياً لا محلياً فقط)، إلى الإشارة إليها كـ"مفسد"، إن كان لفئة الشباب أو للحياة "العادية" أو للجماهير، من وجهات نظرٍ مختلفة، لعلّ الرقابة (الأبوية والنظاميّة) أبرزها، وصولاً إلى توحّش الاستقطاب، وتجييش مواطنين وجيوش إلكترونيّة لقمع معارضين أو مَن هم مختلفون عن التوجّه السائد.
بين هذا وذاك كلّه، باتت بعض التطبيقات تعتبر "خطِرة" فيما أخرى يرى فيها المستخدمون "مساحاتٍ آمنة" للنقاش والتواصل والتعبير بحريّة. نصل هنا إلى المساحة "الأجدد" بين التطبيقات، أي تطبيق "كلوب هاوس"، الذي طرح قواعد جديدة للتواصل، أهمّها التواصل الصوتي بعيداً عن الكتابة التي قد تستغرق وقتاً أطول في التحضير للمنشورات، ومقاطع الفيديو التي تستلزم إعداداً أكبر وتعتمد على المظهر والمحتوى البصري مع المضمون. هذا عدا عن أنّ التطبيق الجديد يسمح بالتلاقي، كأصدقاء في المقهى، والتحدّث مع مجموعة كبيرة من الأشخاص في مواضيع لامتناهية، متعارضة أو متداخلة، في زمن يشهد تفرّق زملاء وأصدقاء بسبب الحروب والقمع والهجرة، إضافةً إلى جائحة كورونا التي تفرض الإغلاق حول العالم، وبالتالي التباعد.
أتى "كلوب هاوس" بأسئلة حول مساحات النقاش وأمانها، وقدرتها أصلاً على احتواء الاختلاف من دون تحويله إلى قضايا "إهانة" و"إفساد" أو محاكمات على الرأي والتعبير
لكن بعيداً عن طرق التواصل ومجالاته التقنية الجديدة، أتى تطبيق "كلوب هاوس" بأسئلة حول مساحات النقاش وأمانها، وقدرتها أصلاً على احتواء الاختلاف من دون تحويله إلى قضايا "إهانة" و"إفساد" أو محاكمات على الرأي والتعبير. وما يسمح باستمرار هذا النقاش حالياً، هو الحصريّة والنخبويّة التي لا تزال موجودةً في التطبيق، عدا عن عدم إمكانيّة استعادة المحادثات لأنّها غير مسجّلة (تقول الشركة إنّها تسجّل محادثات الغرف خلال حصولها مباشرةً فقط، كي تستطيع الاستعانة بها في حال التبليغ عن أشخاص واحتمال معاقبة مستخدمين إن خرقوا سياساتها أو مارسوا الكراهيّة والتصيّد على آخرين). كانت "المساحات الآمنة" بين أسئلة المستخدمين، وبينهم العرب، خصوصاً بعد فتح نقاشاتٍ عبر غرف في التطبيق جمعت أضداداً ومتنافرين في الآراء والتوجّهات، ليتبادلوا الآراء والطروحات حول مواضيع معيّنة، قد تكون ممنوعةً في فضاءات أخرى أصلاً، أو حتى تستحيل أن تجمع بين "خصوم" في التواصل الكتابي عبر المنصّات الأخرى، وتحديداً "تويتر"، الذي تنتعش فيه الجيوش الإلكترونية وتنتصر على "المخالفين" للتوجه الحكومي، أو حتى "فيسبوك" (ومشتقاته في الدول الأخرى)، الذي تخصّص خوارزمياته الصفحات الرئيسية لتلاقي مَن يشبهون المستخدم، لا مَن يختلفون معه.
في النقاشات الصوتيّة، يُفتح موضوع الأمان، مرةً بطريقة مباشرة للحديث عن الجيوش الإلكترونية والعنصرية والذكوريّة ومحاباة الأنظمة، ومرةً بطريقة غير مباشرة عبر السؤال، مثلاً، عن إعلامي مؤيد لنظامٍ، كان يحرّض على التطبيق ومستخدميه على الشاشة قبل ساعات، ودخل فجأةً إلى غرفةٍ تناقش تفاصيل يوميّة عاديّة كالمأكولات الشعبية المعروفة وأصلها أو حتى التعامل اليومي مع جائحة كورونا. أو عن إعلامي - كوميدي معروف بتصريحاته واسكتشاته العنصرية والهوموفوبوية والإسلاموفوبوية، شارك، خلال استكشافه التطبيق، في غرفة مع أفراد لا يشعرون بالأمان في بلدهم في ظلّ وجود أمثال هذه الشخصيّة في مراكز متقدّمة. وفي النقاشات تلك، بعيداً عن عنوانها الأساسي، تُطرح الأسئلة عن عدم وجود هذه المساحات وأسباب ذلك، وسط محاولاتٍ لتحديد المفاهيم وتمييز التصرّفات السامّة وفصلها عن الحريّات الفرديّة كالتعبير.
تبدو الأسباب المباشرة لغياب المساحات الآمنة عبر تطبيقاتٍ أنشئت أصلاً للتواصل، لكنّها ابتعدت عنه كثيراً إلى حدّ التفرقة، واضحةً ومختلفة: في بداياتها، الأحكام المسبقة حول أشخاصٍ بسبب كتاباتهم على منصّات التواصل، وتحديداً "تويتر"، خاصةً إذا ما كان الأمر يتعلّق بالسياسة، وحول اعتبارهم "استفزازيين" ولا إمكانيّة للحوار معهم. يظهر، من بعد أكثر من نقاش في أكثر من بلد حول هذه النقطة، أنّ التعبيرات المكتوبة والمقتضبة تساهم في عدم ودّ شخصيات كثيرة، هي في الحقيقة قابلةٌ ومرحّبة بالنقاش، من دون أن تكون بذلك التشبّث الذي يبدو في منشوراتها.
تبدو الأسباب المباشرة لغياب المساحات الآمنة عبر تطبيقاتٍ أنشئت أصلاً للتواصل، لكنّها ابتعدت عنه كثيراً إلى حدّ التفرقة، واضحةً ومختلفة
بين الأسباب أيضاً، كثافة الجيوش الإلكترونيّة وأصحاب نظريّات المؤامرة والمدافعين عن "تقاليد" و"قيم مجتمعات" تقمع في الحقيقة توجّهات وميول أفراد آخرين. تلك السيطرة والشراسة، والأذيّة التي تتسبب بها هذه الجيوش، صادرت حقيقةً المنصّات المكتوبة، وساهمت في إرساء الرقابة الذاتيّة والحكومية، كون كلّ ما هو مكتوب ومخزّن على صفحات تلك المواقع، يمكن استعادته وتحويره أو تحويله إلى قضيّة ومحاكمة وحتى إنهاء واحدة أو أكثر من جوانب حياة الفرد - المهاجَم. وفي خانة الجيوش الإلكترونيّة وممارسة الكراهية، يأتي التنمّر، كعمل مشين يستهدف "نقاط ضعف" في أشخاص قد يكونون مختلفين، ويتسبّب بأعلى أنواع الأذيّة، خصوصاً على الصعيد النفسي. والتنمّر قد تمارسه جماعات بعضها مع بعض، أو قد يكون فردياً، وفي الحالتين، آثاره كارثيّة، وهو أحد الأساليب المعتمدة على منصّات التواصل من قبل مَن يصنّفون أنفسهم "متنمّرين"، دون خجل، ويتسبّبون بأذية المختلفين عنهم، ليكرّسوا قوّتهم وسيطرة مَن يشبهونهم، فتتحوّل لاحقاً آراء وتصرّفات ضحايا التنمّر إلى ممنوعات وجرائم، دون أي إدانةٍ وتجريم للكراهية وتصرّفات المنتهكين لحيوات وكرامات ناسٍ آخرين.
على أنّ الرقابة والتوجّه الاستبدادي في العديد من الدول حول العالم، وبينها الدول العربيّة، هو المسبّب الرئيسي في اختفاء مساحات النقاش وأمانه أصلاً. فكثيرون مضطهدون في بلدانهم بسبب آرائهم وميولهم، لم يعودوا قادرين على التعبير عن أنفسهم بحريّة، خوفاً من الملاحقة التي باتت الردّ الأول لأنظمة وحكومات على مقاطع راقصة أو وثائقيات أو حتى تعبيرات سلميّة عن الرأي. ولعلّ السيطرة المحكمة على التطبيقات التي تخزّن الآراء والصور ومراقبتها، عنصر أساسي في محاولات الهروب نحو منصّات أكثر أماناً.
التوجّه الاستبدادي هو المسبّب الرئيسي في اختفاء مساحات النقاش وأمانه
وبين التصرّفات السامّة التي تقتل المساحات الآمنة عبر التطبيقات، تأتي الذكوريّة. فعلى "كلوب هاوس"، أطلقت مجموعة واسعة من العالم العربي، تضمّ، أو أنشئت من قبل إعلاميين ومشاهير رجال، العنان لغرفٍ ذكوريّة أو تناقش قضايا وحقوق النساء، من دون السماح لهنّ بإبداء آرائهنّ، أو إقصائهنّ ومقاطعتهنّ خلال كلامهنّ. بالتزامن، أنشأت نسويّات غرفاً للحديث عن ممارسات ذكوريّة سامّة تعيقهنّ يومياً، بينها سيطرة رجال على المنصّات والنقاشات والطروحات، وإسكات نساء بحجّة أنهنّ "منفعلات" ولا يستطعن التمييز في قضايا تمسهنّ شخصياً، كالعنف الجسدي والنفسي والاقتصادي وقضايا المساواة.
في مقارباتهم وتحليلاتهم حول تطبيق "كلوب هاوس" والإقبال الجماهيري عليه، خصوصاً عربياً، يذهب إعلاميّون وكتّاب إلى الإشارة إليه كـ"لحظة ستنتهي"، بعد تطويره وفتحه أمام العموم، حين ينزاح غطاء النخبوية ويتلاشى الأمان الحالي كي يصبح رقابةً قد تستشرس وتصل إلى مستويات جديدة من القمع. فحول العالم، عمدت الأنظمة الاستبداديّة إلى تضييق مساحات النقاش المفتوحة في الفضاء السيبراني، والتي كان بينها "تويتر" و"فيسبوك" في بداية انطلاقتهما، كي تلغي انتقادها منها فلا تسمح بأن تتطوّر الآراء إلى حركات سياسيّة واجتماعيّة معارضة، ربّما تصل إلى جمهور أوسع وتحقّق تغييراً ما.
ولهذا التصوّر سابقاتٌ ترجّحه، كالقمع في العالم العربي في فترة ما بعد الربيع الذي ازدهر على التطبيقات، أو القمع الصيني الذي حظر أصلاً التطبيقات الأميركيّة وأنشأ تطبيقات خاصّة به كي يراقب المنشورات والتوجّهات من مكاتب الاستخبارات لا من موقع المتلقّي، وهو ما حصل في حالة "كلوب هاوس" أيضاً حيث حظر بعد الإقبال الواسع عليه، لغياب أي مساحةٍ حقيقيّة للنقاش السياسي بسبب القمع الصيني.
كلّ هذه المقاربات، تحيلنا أيضاً إلى واقع الإعلام حول العالم حالياً، والذي اختفى النقاش الآمن منه أيضاً، حيث غابت الآراء المتناقضة من مساحات خُلقت في الأصل كي ترفع أصوات الناس وتغطّي مآسيهم وتعطي الأولوية لشؤونهم. فباتت وسائل الإعلام تُرى كمنصّات محددة الجمهور والآراء والتوجّهات، وهو أحد نتائج ارتفاع حدّة الاستقطاب السياسي وسيطرته على وسائل الإعلام بعد اشتراط الانخراط فيه كشرطٍ أساسي للتمويل. هكذا تأتي هيمنة الأنظمة والحكومات والإيرادات على فضاءات الإعلام والاتصال والتواصل، ومَن فيها، لتنسف مبدأ الأمان، وتعيدنا إلى مربع الإسكات الأول.
تجتمع هذه الأسباب، وغيرها، في منصّات التواصل الأشهر، وتحجب قدرة المستخدم/ة على الشعور بأنّ التعبير آمن وممكن، أو الرغبة في المشاركة في نقاشٍ سياسي أو اجتماعيّ أو حريّاتي من الأصل. لا يعني ذلك أنّ "كلوب هاوس" بعيدٌ عن أن يصبح منصّة إقصائيّة، فهو لا يزال حصرياً ويشترط الشخصيّات الحقيقيّة، وكل ذلك قد يتغيّر مع تطويره وازدياد عدد مستخدميه. إلا أنّ مجرّد إدراك حجم الإلغاء الذي تكرّسه منصات تلقى رواجاً كبيراً، وفتح هذا النقاش، قد يعني أنّ ثمّة مَن سينشئ منصّة تشترط الأمان وتتمحور حوله، علّ الحوار يعود في زمنٍ يتسامح مع الكراهية، وتنقضّ فيه الحكومات والدول على التعبير، وتلغي فيه كورونا احتمال اللقاء.