النشيد الوطني... العالم يهتف تحت راية واحدة

08 نوفمبر 2022
جمهور المنتخب الإنكليزي يغطّي عبارات عنصرية وُجّهت إلى راشفورد (كريستوفر فورلونغ / Getty)
+ الخط -

عندما دُعي نادي كريستال بالاس اللندني، ليواجه جاره، نادي أرسنال على أرضه، ضمن منافسات الدوري الإنكليزي الممتاز سنة 2005، فوجئ كريستال بالاس بفريق يتألف من ستة لاعبين فرنسيين، ثلاثة إسبانيين، هولنديّين، وفتيان من ألمانيا، والكاميرون، وساحل العاج، بالإضافة إلى سويسرا والبرازيل؛ إذ لم يلعب ضمن تشكيلة أرسنال خلال تلك المباراة، أي لاعب إنكليزي.

تعود ظاهرة ضمّ لاعبين أجانب إلى الأندية الإنكليزية إلى بداية القرن العشرين. في سنة 1906، وقّع اللاعب الألماني ماكس سيبورغ عقد انضمامه إلى فريق تشيلسي اللندني. بعد ثلاثة أعوام على إبرام العقد بين تشيلسي وسيبورغ، حل لاعب مصري يُدعى حسين حجازي على نادي فولهام، ليغدو أول لاعب أفريقي يلعب في الدوري الإنكليزي. ظهر حجازي في مباراة واحدة، سجّل خلالها هدفاً واحداً.

بالنظر إلى المنتخب الإنكليزي، عندما نافس ضمن بطولة أمم أوروبا 2020، وذلك بُعَيد انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، يمكننا ملامسة مدى التعدد الثقافي الذي تميّز به قوام الفريق؛ إذ شارك لاعبون من جامايكا، ونيجيريا، وبولونيا، وجمهورية تاباغو وترينيداد. الجديد الطارئ على ظاهرة العنصر الوافد في كرة القدم الإنكليزية، أن اللاعبين "الأجانب" لم يعودوا أجانب، بل أصبح جلّهم مواطنين من ذوي الجنسية المزدوجة، أي إنهم بريطانيون، إضافةً إلى البلد الأصل الذي ينحدرون منه.

المظهر ذاته ينطبق على كرة القدم في فرنسا. بحكم علاقاتها الكولونيالية بالقارة الأفريقية، لطالما استدرجت الأندية الفرنسية المواهب الرياضية، سواء من شمال القارة السوداء أو من جنوبها. ضمن الدوري الفرنسي، لعب شبان، منهم مواطنون أفارقة ومنهم مواطنون فرنسيون من أبناء مهاجرين أفارقة، كانوا قد رحلوا إلى فرنسا من مستعمرات سابقة.

في مونديال سنة 2018 الذي أقيم في روسيا، تُوّج المنتخب الفرنسي بطلاً. حينئذ، كان عدد لاعبي المنتخب من ذوي الأصول الأفريقية، 12 من أصل 23 لاعباً، بينهم نجومٌ صاعدون، كالشاب الكاميروني الأصل كيليان مبابي، والفرنسي من أصول مالية، نغولو كانتي.

اليوم، لم تعد مسألة التنوع العرقي والثقافي، التي فرضتها كل من حقبة العولمة، وقيام الصناعة الرياضية ومبدأ "الجدارة مقابل التمثيل"، لتُثير الكثير من الاستغراب. ثمة سلسلة من العوامل التي تبدأ بتتبّع الموهبة الرياضية، ثم استقدامها أينما كانت، وفي أيّ بلد أو إثنية ظهرت، القوة المالية التي تملكها الدولة صاحبة المنتخب، أو النادي صاحب الفريق، ثم العلاقة المطردة ما بين كفاءة اللاعب ونجاح النادي أو المنتخب، والرصيد المادي والإعلامي المترتب على ذلك النجاح لكليهما معاً.
 
تكتسب المسألة رمزية خاصة، خلال بطولة كأس العالم لكرة القدم (المونديال) تحديداً؛ إذ تلعب القصيدة والموسيقى دوراً آسراً على صعيد المشهدية العاطفية، وذلك نسبةً إلى كلّ من اللاعب والمُشجّع. فالتمثيل خلال المونديال وطنيٌّ بالضرورة. وأبرز علامة على وطنية التمثيل في مستهل كلّ مباراة على مدار أدوار البطولة، عزف النشيد الوطني لكلّ من البلدين المتواجهين، حين نرى أفواه لاعبي كلّ من الفريقين، تردد كلماته، وقد تراصّت صفوفهم بأكتافهم، وأكفّهم على صدورهم، إعلاناً للحب والوفاء، وشرف الانتماء، فيما حناجر الألوف من المشجعين تصدح مصاحبةً مؤازِرة.


 
أخذت العلاقة بين النشيد الوطني والمنتخب الوطني تتعقد في زمن التعددية الثقافية، وأزمة اضطراب الهوية، وازدواجية الانتماء التي بات يعاني منها أغلب اللاعبين المشاركين في المونديال، ليس فقط إزاء كل من بلد الجذور وبلد المواطنة، بل أيضاً إزاء منتخب التمثيل الوطني ونادي المسيرة الاحترافية.

فيما يُمثّل النشيد إشهاراً للهوية الوطنية من قبل أعضاء الفريق على أرض الملعب وجمهوره من على مقاعده، وخلف شاشات التلفزيون، يبدو مشهد ترديده من قبل شُبّان، تلونت بشراتهم وتعددت لغاتهم وتنوعت أهواؤهم ومعتقداتهم، وتنافست مواطن الأندية التي تعاقدت مع كلّ واحد منهم، إعلاناً لفجر دولة وطنية جديدة، بحلّة عصرية قائمة على التعددية بالنسبة إلى بعضهم، وبالنسبة إلى آخرين، يعبّر الأمر عن تهلهل الحوامل الأيديولوجية للدولة الوطنية في زمن العولمة، وحرية انتقال رأس المال والموارد البشرية، التي تشكّل المواهب الرياضية أحد أصنافها.

خلال مباراة ودية ضد فريق البوسنة والهرسك، تحضيراً لدورة كأس العالم التي أقيمت في دولة جنوب أفريقيا سنة 2010، أبدى الجمهور الألماني استياءه، عندما رفضت مجموعة من أعضاء منتخب فريقه من ذوي الأصول المهاجرة ترديد النشيد الألماني.

في سنة 2012 هذه المرة، خلال كأس أوروبا، تعرض المنتخب الألماني لانتقاداتٍ حادة بسبب قلة الحماسة حيال ترديد النشيد. بعض وسائل الإعلام المحلية ذهبت إلى حد إرجاع سبب خسارة ألمانيا أمام إيطاليا، خلال البطولة، إلى "انعدام الحميّة الوطنية"، كما ورد على لسان المدير الفني وقائد المنتخب الوطني السابق، الألماني فرانز بكنباور، إذ علّق حينها: "النشيد الوطني يجب على اللاعبين حفظه وترديده بصوت جهور قبل انطلاق المباراة، وذلك لرص الصف ورفع المعنويات".

 


في الواقع، يعود اجتهاد بكنباور بخصوص الحرب النفسية في مجال التنافس الرياضي، إلى المرّة الأولى التي صاحب بها ترديد نشيدٍ وطني مناسبة رياضية سنة 1905. كان ذلك في مستهلّ مباراة في رياضة الرغبي بين كل من فريقي ويلز ونيوزيلاندا، جرت في استاد بمدينة كارديف بمقاطعة ويلز في المملكة المتحدة.

عزماً على إلحاق الهزيمة بالفريق النيوزيلاندي، الذي لم يسبق له أن خسر على مدار سبع وعشرين مباراة، بحث اتحاد ويلز للرغبي عن وسيلة يرفع بها معنويات فريقه، لدى مقارعتهم الجبابرة النيوزيلانديين، خصوصاً بعد رؤيتهم قبيل كل مباراة، وهم ينفذون رقصة الحرب الجماعية المهيبة، التي تعود إلى شعب القارة الأصلي، والمسماة "هاكا".

لذا، دعا قائد ويلز تيدي مورغان لاعبيه إلى ترديد نشيد ويلز الوطني "أرض آبائنا القديمة" (Hen Wlad Fy Nhadau). سرعان ما التقط أربعون ألفاً من جموع المشجعين الكلمات، يرددونها خلف فريقهم. على هديرها اهتزت أرض الملعب، وتمكن أصحابه من هزيمة ضيوفهم بثلاثة مقابل صفر.

كان ذلك أول القرن العشرين. أما أول القرن الحادي والعشرين، فالعالم يبدو أشد سيولة وأكثر تعقيداً لجهة العوامل التي تُسهم في تشكيل الانتماء لدى المواطن، فضلاً عن الرياضي. الثابت يبقى ولا ريب، أن النشيد في الرياضة، هو وسيلة لغاية، هي عشق الرياضة ذاتها، من قبل ممارسيها ومتابعيها على حدٍّ سواء، والتي بقدر ما ظلت تلوّثها أذرع السياسة والمال، ظلت تبدي قدرتها، إلى اليوم على الأقل، على السمو بالمال وبالسياسة.

المساهمون