الموسيقى والفيزياء: أن تنوّت إيقاع الكون

23 أكتوبر 2020
آينشتاين: "إن الله لا يلعب النرد" (Getty)
+ الخط -

شهدت الموسيقى تحولاتها الذهبية في أوروبا بالمجاورة مع الاكتشافات الفيزيائية العظيمة. لا يعني هذا أن الموسيقى مجال تطبيقي لقوانين العلم؛ إذ ستفقد مزيتها كفنٍ خالص، فهي تُعبر عن نفسها بروح العصر الذي تنتمي إليه، غير أن التقاء الموسيقى بتطور الفيزياء ظاهرة خفية قابلة للتفسير.

مع غاليلو ونيوتن ولايبنتس، جُردت التصورات إلى رموز، بصورة فتحت للعلم آفاقاً واسعة في عصر الباروك. تزامن ذلك مع ما حققته الموسيقى، وهي أكثر الفنون تجريدية، من تحولات أفضت إلى عصرها الذهبي.

بلغ قالب الفوغا ذروة صيغته مع الألماني يوهان سيباستيان باخ، في الفترة الواقعة بين اكتشاف علم التفاضل والتكامل على يدي نيوتن ولايبنتس، وبين ظهور الميكانيكا الكلاسيكية. كانت معضلة تتعلق بعلاقتين متعاكستين: قوة الطرد المركزي للقمر، والقوة الجاذبة للأرض.

لكن عبقرية نيوتن مرتبطة بتوصله إلى مفهوم تجريدي عبر قانونه، متأثراً باقتراح هوك له حول أن الجذب يكون في تناسب تربيعي مع عكس المسافة. من ناحيته، لم يكن باخ مبتكراً لتيار موسيقي جديد، إنما صاغ موسيقى الباروك في ذروة كمالها. وأكثر ما يميز موسيقى باخ، هو النمو العضوي للحن من الخلية الواحدة. فالألحان تتوالد في خطوط لحنية متعاكسة، أو بأسلوب الكر والفر في نظام الفوغا. وبينما يكون اللحن متجهاً في مسار سرعان ما ينحني عائداً إلى نقطة البدء، وهكذا تتدفق ألحانه مشدودة إلى قوة خفية، هي الانجذاب إلى بعضها.

مع باخ، اكتسبت الفوغا طابعا تجريدياً في أسلوبها، لكنها تضمنت تفسيراً باطنياً بما تولده من أشكال تناظرية. اعتمد نيوتن في قانون القصور الذاتي على ما قاله العالم الإيطالي غاليليو غاليلي الذي اكتشف أن القذيفة تسير في هيئة قطع مكافئ.

تعود أول صيغة عظيمة لقالب الفوغا إلى الهولندي جان بيترسون سفيلينك، المولود وغاليليو في نفس العام. حين كان الأخير يطور أفكاره في ثمانينيات القرن السادس عشر عن البقع الشمسية، ويجري التجارب العلمية باستخدام أدوات بسيطة، بدأ عصر الباروك.

اتخذت الموسيقى سياقاً واقعياً وإنسانياً في تعبيرها، فاستبعدت التكنيك الجامد وركزت اهتمامها على الدقة والوضوح. ومع بزوغ عصر ميكانيكا المادة في الفكر الفيزيائي، تغيرت الأساليب والقواعد اللحنية في إيطاليا، لتتخذ الموسيقى شكلاً ديناميكياً. لم يعد العزف يسير بسرعة واحدة، وأصبحت هناك حرية في تغيير السرعة بحسب اختلاف اللحن. أيضاً، الصعود المفاجئ إلى أعلى درجة أو الهبوط المفاجئ إلى أدناها، بينما كان ينبغي حدوث ذلك بصورة تدريجية.

في إنكلترا، ظهرت أول آلة بخارية عام 1725. وبعد سنوات، اكتشف غراي قاعدة أساسية في الكهرباء، بأن أي جسم مشحون كهربائياً يمكنه كهربة جسم آخر. كانت الفوغا عند باخ في قمة نضجها، غير أن تيارا موسيقيا جديدا ولد في نفس الفترة. هيمنت الهارمونية على موسيقى الروكوكو التي جاءت مفعمة بالحركة وألحان ديناميكية رشيقة. كما تتسم بالبناء المتناسق الخاضع لميزان العقل والمُقتصد بالانفعال.

بلغت موسيقى الروكوكو المتسمة بالتعبيرات الكليشيهية، ذروتها مع النمساويين هايدن وموزارت. لكن الأخير أخضع الكليشيهات لتعديلات باطنية جعل منها ألحاناً فريدة. أدى تطور الميكانيكا إلى ظهور الثورة الصناعية في إنكلترا، التي سبقت أوروبا بأربعة عقود. وفي غضون ذلك، أعطى هايدن الشكل النهائي للسيمفونية، مضيفاً قالب الموتيت إلى الحركة الثالثة، لاحقاً استبدله بيتهوفن بالسكرتسو الإيطالي ليلائم أسلوبه العنفواني. ومع موزارت، ظهرت الجمل غير المتساوية في الطول، دافعاً التعبير الدرامي ذروته في مزيج من الأوراتوريو وغنائية الآريات الإيطالية.

كانت الفيزياء تسير إلى ديناميكيا مختلفة منشغلة بطبيعة المادة الجوانية، بعد أن أعطتها مفهوماً ظاهرياً للكون، ليظهر الاهتمام بالإلكترونات والفوتونات. ومع بزوغ العصر البرجوازي، ثارت أوروبا على منطق العقل الخالص الذي بدا منطقاً أرستقراطياً. وظهرت موسيقى بيتهوفن مثل عاصفة ثورية، ومع أنه حافظ على القالب الكلاسيكي، لكنه جعل الموسيقى تعبيراً عن الذات.

بلغ العنفوان بموسيقى بيتهوفن مظهراً ديناميكياً غير مسبوق، كان سافار وأمبير يستكشفان القواعد الكمية للتيار الكهربائي وسلوك الكهرباء باعتباره سلوكاً مغناطيسياً، في الوقت الذي ظهرت فيه سيمفونية بيتهوفن التاسعة ورباعياته الخمس الأخيرة.

اتبع شوبرت منهج بيتهوفن، أي اتاحة الانفعال العاطفي في الموسيقى، مع المحافظة على قالبها، وكان آخر الموسيقيين الثيميين العظام، وربما نهاية العصر الذهبي للموسيقى الذي بدأ مع باخ.

لم ينجُ العلم من نزوع القرن التاسع عشر الصريح بمأساويته الذي صُدم بالموت الفاجع للعالم الفرنسي الشاب إيفاريست غالوا عام 1831. مات صريعاً وهو في الواحدة والعشرين من عمره في مبارزة مع ضابط فرنسي، بعد أن اكتشف الأخير علاقته بزوجته. لكنه ترك للعلم ملاحظات في غاية الأهمية، أفضت إلى معادلات رياضية من الدرجة الخامسة.

اتسمت موسيقى ذلك القرن بالمأساوية نفسها؛ بدءاً من الرباعية الوترية لشوبرت "الفتاة والموت"، مروراً بليليات شوبان، وصولاً إلى "الموت الفاجع لتريستيان" في أوبرا فاغنر.

في نفس العام، انتقلت الفيزياء إلى ديناميكيا الجُسيمات، مع فاراداي الذي توصل إلى أن للكهرباء مجالين، أحدهما كهربائي والآخر مغناطيسي. وكانت أيضاً مرحلة التطرف الرومانتيكي، سواء عبر ظهور الموتيفات التي حلت مكان الثيمات، أو في العاطفة المفرطة، لكنها منحت الموسيقى قوة اللحن الجارفة الشبيهة بتيارات كهرومغناطيسية.

وصلت الفيزياء الكلاسيكية نهايتها في ستينيات ذلك القرن، مع معادلات ماكسويل التي حللت رياضياً المبادئ الكهرومغناطيسية المُكتشفة قبله. حينها ألف فاغنر ذروة أعماله الدرامية "تريستان وايزوالده" و"أساطين الغناء"، آخر البواكير العظيمة للموسيقى قبل ظهور الحداثة. وعندما اهتدى الموسيقي الفرنسي كلود ديبوسي إلى أسلوبه التأثيري الهادم للهارمونية التقليدية، على وجه التقريب، اكتشف هرتز أن المجال الكهرومغناطيسي يتذبذب.

صاغ ديبوسي أسلوباً مقامياً جديداً متأثراً بالموسيقى الجمالانية الإندونيسية، يعتمد على مسافات متساوية ذات بعد كامل أساسها ست نغمات. واشتق منها مفهوماً جديداً لا يعتمد على نغمة مسيطرة أو صوت أساسي. وفي عمله "مقدمة لظهيرة الفون"، لا نلحظ أي تطور للحن، كل نغمة لديها وظيفتها الخاصة، هناك أيضاً هارمونية عضوية لا تتبع التسلسل المنطقي للموسيقى التقليدية، لكن ما يميز هذه الموسيقى انحسار الغرض اللحني؛ فالموسيقى تتوالد بنغمات مستقلة عن الأخرى.

ورغم البراعة التركيبية في ألحان ديبوسي، اتبعت دقة علمية أكثر من كونها جموحاً فنياً.

وضعت نسبية آينشتاين نهاية لمفهوم الزمان المُطلق عند نيوتن، واعتبرته ملتصقاً بالمكان، صاغ هذا الأمر في مفهوم أطلق عليه الزمكان. استعادت النسبية الأساليب الخيالية للفيزياء الكلاسيكية. وفي الموسيقى، برز تيار عُرف بالنيو كلاسيكية. أعطى سترافنسكي الموسيقى أساليب ديناميكية جديدة، عبر إعطاء الإيقاعات دوراً جوهرياً، بينما صاغ ألحانا متقشفة مليئة بالتنويعات والتلوينات.

يمكن ملاحظة عواصف الفاجوت الخشنة في مطلع باليه "طقوس الربيع" بصيغ بولوفونية، فاللحن كان نسبياً بما أن حركة الكون أشبه بصورة ميكانيكية. يختلف الأمر بالنسبة لبارتوك، إذ تتخذ خشونته طابعاً غنائياً، سواء في كونشرتو للأوركسترا، أو رباعيته الوترية الرابعة، فالغاية توليد غرابة لحنية متوترة، وربما التطرق إلى أصوات جديدة عبر أساليب عزف غير تقليدية.

مطلع القرن العشرين، توصل ماكس بلانك إلى أن الضوء ينتقل في هيئة كمات بشكل غير متصل. أحدثت نظرية الكم ثورة علمية معلنة ميلاد ما يُعرف اليوم بفيزياء الكم. وفي الموسيقى، ظهر تيار ينكر المقامية قاده النمساوي أرنولد شونبرغ، الذي جزأ المفهوم التونالي عبر هدم المركز النغمي، واستبداله بالتناوب المستمر للنغمات.

صحيح أن ديبوسي ترك أثراً كبيراً عليه، لكن شونبرغ اتخذ مبادئ كلاسيكية، فمن باخ أخذ النمو العضوي عبر تقييد النغمة الرئيسية، ومن موزارت تباين الأشطار اللحنية، بحيث يمنح هذا التباين مظهراً ديناميكياً. لكن نظرية الكم ستتخذ اتجاهاً إشكالياً في مبدأ عدم اليقين أو المصادفة، إذ ذهب علماء الكم إلى أنه إذا كان من الممكن قياس سرعة جُسيم يستحيل توقع اتجاهه والعكس، وفي حال تمكنا من معرفة أحدهما، يستحيل معرفة الآخر.

وذهب ماكس بورن إلى أن الميكانيكا يمكن فهمها بالاحتمالات، وليس ضمن قوانين ثابتة. وجهت فيزياء الكم صفعة للمبادئ العلمية التقليدية التي لا تتصور أن تخضع قوانين الكون للمصادفة أو الاحتمالية.

بالتزامن مع ما أثارته من جدل، ابتكر شونبرغ عام 1923 المقام التسلسلي، ويمكن من خلاله اختيار تسلسل نغمات الديوان الاثنتي عشر، والمتباعدة عن بعضها بنصف صوت. كانت بمثابة قاعدة احتمالات، وإن اتخذت صيغة تحكمية، انهارت معها مبادئ السُلم التقليدي.

رفض آينشتاين هذا المبدأ الاحتمالي في العلم، وكان رده الشهير: "الله لا يلعب النرد". لكن هل تعيدنا تلك المقولة إلى ما قبل غاليليو؟ عاد سترافنسكي في الموسيقى إلى ما قبل الباروك، ونقب في موسيقى القرن الخامس عشر والرابع عشر، عبر إعادة صياغة أشكالها البولوفونية.

عانت الموسيقى الأوروبية تراجعاً بعد أن شهدت عصورها الذهبية، لكنها اليوم تمر بأزمة عميقة حتى في الاتجاهات الشعبية. وبالنسبة للعلم والفيزياء، على وجه الخصوص، انتهت عصور الاكتشافات العلمية العظيمة. صحيح أن العلم يطور تقنيات ويبتكر تكنولوجيا، لكن آخر الاكتشافات العظيمة تعود إلى ما قبل قرن. كذلك يعود آخر تطور في صناعة الآلة الموسيقية إلى أكثر من قرن، واقتصر الجديد فيها على استحداث أصوات كهربائية. على أن كل حضارة تصل فيها الفنون إلى مرحلة ضمور وموت، وتصبح متطفلة على موروثها.

المساهمون