الموجة الرومانية الجديدة: تنوّع وثراء وجوائز

25 اغسطس 2021
كريستيان مونجيو في مهرجان "كانّ" 2017 (أندرياس رنتز/ Getty)
+ الخط -

في إطار ملف "السينما الجديدة في أوروبا الشرقية"، تنشر "العربي الجديد" مقالاتٍ مختلفة، تتناول أبرز سماتها وأسمائها وتاريخها. بعد "سينما أوروبا الشرقية: تحدّيات تصنع أفلاماً" (19 يوليو/ تموز 2021) و"السينما البولندية المعاصرة: واقعية اجتماعية وانتقاد حاد لعيوبٍ وفساد" (4 أغسطس/ آب 2021)، هنا حلقة ثالثة عن "الموجة الرومانية الجديدة".

 

رغم أهميتها الكبرى، وحضورها القوي في تاريخ أوروبا منذ تأسيسها، وكونها من بين الأكبر مساحةً وتعداداً سكانياً، بخلاف التركيبة الإثنية والعرقية واللغوية المركّبة، تكاد رومانيا تكون دولة غير موجودة أو فاعلة أو مؤثّرة، أو حتّى ذات سمعة سيئة، على صعد مختلفة، في النسيج الأوروبي. أمر غامض جداً لبلدٍ عريق، له تميّز جغرافي، بفضل لقاء 3 مناطق حيوية فيه: أوروبا الشرقية والوسطى والبلقان. كما له حضور ثقافي متجدّد في التاريخ الحديث.

بين حينٍ وآخر، تبرز رومانيا فجأة، ثم تغيب عن الأنظار. لها في تاريخها الحديث مشاركةٌ في حرب البلقان. خاضت الحربين العالميتين الأولى والثانية. هناك ثورة على الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو، ثم إعدامه وزوجته عام 1989، والإعدام بُثَّ مباشرة على شاشات التلفزيون. هناك أيضاً مشاكل الغجر، والمتاعب الدائمة، المؤدّية إلى حرمان رومانيا من دخول الاتحاد الأوروبي. مؤخّراً، مع مطلع الألفية الجديدة، تردّد اسمها كثيراً بشكلٍ إيجابي: فوز هيرتا مولر بـ"جائزة نوبل للآداب" (2009)، وبروز أجيال متتالية من السينمائيين الموهوبين، ما دعا النقّاد إلى وصفهم بـ"الموجة الرومانية الجديدة".

في التاريخ السينمائي لرومانيا، لم تكن هناك موجات قديمة يُمكن مُقارنتها بالموجة الجديدة. غالبية تاريخها هذا قليل الإنتاج، فنياً. لم يتواجد عالمياً بقوّة، على نحو بارز أو لافت للانتباه. كما أنّ الأسماء المُكرّسة فنياً، والحاصلة على جوائز، تكاد لا تُذكر. مع ذلك، فصناعة السينما في رومانيا راسخة.

نظام الاستديوهات والورش ومعاهد السينما أفرزت الكثير عبر التاريخ. لكن الغالبية لم تبدع ولم تتألّق إلا نادراً. كان للأحداث التاريخية دورها وتأثيرها على السينما، وعلى الأعمال المُنتجة والمعروضة؛ وذائقة الجمهور وتشكّلها عبر عقود. مثلاً، كانت الإنتاجات الروسية مُسيطرة غالباً في فترة الشيوعية، ثم الأميركية لاحقاً، بعد سقوط الشيوعية.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

مع انهيار الشيوعية في رومانيا، أسدل الستار على ما كان يطلق عليه "فترة السينما الاشتراكية"، وعلى كلّ ما يمتّ بصلة إلى تلك السينما، بما في ذلك اسم الدولة نفسها، "جمهورية رومانيا الاشتراكية". فبعد انتهاء عصر تشاوشيسكو، بدأت ـ مطلع تسعينيات القرن الـ20 ـ بوادر انفتاح على العصر الجديد، مُقارنةً بالانغلاق الحديدي السابق الذي عاشه البلد، ما أدّى، تدريجياً، إلى إرساء قواعد جديدة عصرية، قوامها حرية الرأي والتعبير والإبداع، وانتفاء كلّ رقابة أو خوف أو بطش أو مُصادرة. المدهش أنّ هذا استغرق عقداً واحداً، تقريباً، لخروج السينما الرومانية من ثباتها، وتغيير جلدها. ما يدلّ على مدى قوّة صناعة السينما في رومانيا، وعراقتها ورسوخها. ذلك البروز التدريجي حمل مقوّمات الموجة الفنية، من حيث تعاقب الأجيال واختلافها وتنوّعها؛ وقبل كلّ شيء: استمراريتها وتطوّرها.

يشترك مخرجو الموجة الجديدة في الخلفية نفسها تقريباً، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وسينمائياً؛ وفي اكتسابهم خبرة ميدانية لا بأس بها، في الاحتكاك والعمل مع الإنتاجات الأوروبية، المُصوّرة في رومانيا، بفضل يد العمل الرخيصة، وفرادة المناظر الطبيعية، والتسهيلات الإنتاجية. كما أنّهم يتميّزون بتحقيقهم أفلاماً بسيطة ومُتقشّفة، وبهوسهم بالأصالة الفنية والتجديد، ومزج أكثر من أسلوب فني. الأرشيف حاضر في الروائي، مثلاً. كما يُمكن ملاحظة الأداء شبه المسرحي في أعمال كثيرة، واللجوء إلى التغريب أحياناً.

أما السمة البارزة فتكمن في قوة الأداء التمثيلي والدرامي على مختلف المستويات، والابتعاد شبه الكلي عن التأثّر بالسينما الأميركية إجمالاً، والاختلاف الكبير مع السينما الأوروبية. في هذا، تكمن أصالة وتفرّد ملحوظان.

الموضوعات التي تقدّمها أجيال الموجة الجديدة مشغولةٌ دائماً بالهوية الرومانية، مع العودة إلى التاريخ القديم بين حين وآخر، أو إلى الماضي الحديث، ومشاكل الحياة اليومية ومآسيها وعبثها في ظلّ الوقائع السياسية والاجتماعية للدولة الشيوعية السابقة، أو الطريقة التي يمضي بها البلد بعد عقودٍ من الديكتاتورية.

الانتقال من الشيوعية إلى الاقتصاد الحرّ والسوق المفتوحة والرأسمالية، وضعف الاقتصاد، والفساد، والبيروقراطية، والتدين الزائف، والهجرة إلى الغرب، وغيرها من الموضوعات، مطروحة في قصص درامية واقعية، تقترب من الحياة الحقيقية، وتميل إلى السخرية المريرة، والكوميديا اللاذعة، والسوداوية أحياناً، مع الابتعاد عن الأفلام السياسية المباشرة، وأفلام الفانتازيا، والفلسفة والتأمل، وحتّى الأفلام الراقصة والغنائية.

بدأت تباشير الموجة الجديدة تطلّ مع مطلع الألفية الجديدة، عبر مهرجان "كانّ" السينمائي، مع فيلمي "السلع والمال" (2001) لكريستي بويو، و"الغرب" (2002) لكريستيان مونجيو، اللذين برز اسماهما منذ ذلك الوقت. بهذين الفيلمين، أوجدت السينما الرومانية لنفسها مكاناً على الساحة الدولية. لكنّ البداية الحقيقية، التي لفتت الأنظار إليها، ووسمت انطلاق الموجة الجديدة، كانت مع "موت السيد لازاريسكو" (2005) لكريستي بويو: كوميديا إنسانية سوداء لاذعة، عن انهيار المنظومة الصحية الرومانية وفسادها، متمثّلة في عجزها عن تقديم أبسط أنواع العلاج للسيد لازاريسكو.

بويو أول روماني يحصل على جائزة "نظرة ما" من مهرجان "كانّ". ورغم أنّ الجوائز ليست معياراً تقييمياً أو دليلاً دامغاً على جودة وأصالة، لا يمكن إغفال كونها دليل نجاح وتفوّق، خاصة لو تكرّر منحها من مهرجانات كبرى لمخرج أو أكثر، على مدى أعوام. في الإطار نفسه، السينما الرومانية الجديدة صاحبة أكبر تتويج بالجوائز في الأعوام الأخيرة، مُقارنةً بغيرها من سينمات أوروبا الشرقية.

في مهرجان "كانّ" أيضاً، فاز كورنيليو بورومبويو بـ"الكاميرا الذهبية" لأفضل روائي أول عن "12:08 شرق بوخارست" (2006): فكاهي سياسي لاذع عن التاريخ الحديث، يرصد لحظة محاولة تشاوشيسكو الفرار من بوخارست بمروحية، وخروج الجمهور إلى الشوارع. في العام التالي، فاز كريستيان نيميسكو بجائزة "نظرة ما" عن "حلم كاليفورنيا" (2007)، بعد أشهر على وفاته الباكرة عن 27 عاماً، وهذا أول روائي له، يتناول التاريخ الروماني الحديث، وتحديداً عام 1999، أثناء حرب كوسوفو، في إطار دراما مأسوية ساخرة: تُجبر قريةٌ قطارَ جنود أميركيين من المرور لعدم توفر تصريح عبور. في العام نفسه، حصل كريستيان مونجيو على جائزتين مهمّتين كأول روماني: "السعفة الذهبية" و"جائزة النقّاد" عن رائعته "4 أشهر، 3 أسابيع، ويومان": دراما نفسية سوداوية سياسية عن التاريخ الحديث، تتناول عقوبة الإعدام عند القيام بالإجهاض، أثناء فترة حكم تشاوشيسكو. هذا كانت تريده الشابّة جابيتا (لورا فاسليو)، التي نتابع رحلتها السرية العسيرة والخطرة لتحقيق ذلك.

 

 

تركّزت الأنظار أكثر فأكثر على السينما الرومانية وإنتاجاتها الجديدة، وإذْ بها تُتوَّج مُجدّداً من "مهرجان برلين السينمائي الدولي" بمنح أول "دبّ فضي ـ لجنة التحكيم الكبرى" لفلورين شربان عن "إنْ أردتُ أنْ أصفّر، سأصفِّر" (2010): عن الأمومة والحبّ والعطف المفقودين عند طفل جانح، والسلوك العنيف المترتّب على هذا. في العام نفسه، نال "الصفة، شرطي" لكورنيليو برومبويو جائزة تظاهرة "نظرة ما"، والفيلم نظرة خاصة على سلوك شاب يتاجر بالمخدرات، وعلاقته بشرطي.

في العقد الحالي، منح "مهرجان برلين" أكثر من "دبّ" لأفلام رومانية: "موقف الطفل" (2013) لكالين بيتر نيتزر فاز بأول "دبّ ذهبي"، إلى "جائزة النقّاد": علاقة أمّ بورجوازية بابنها المدلّل، وتجاوزها خطوطاً حمراء كثيرة لحمايته وإخراجه من مأزقه، بعد صدمه طفلاً بسيارته وهو مخمور. وحصل المخرج نفسه على "الدبّ الذهبي" أيضاً عن "آنا حبيبتي" (2017): قصّة حبّ سيكولوجية معقّدة، وغاية في الإحكام والإثارة والحزن، وأداء شديد البراعة. رادو جود حصل قبله على أوّل "دبّ فضي ـ أفضل إخراج" عن "عفارم" (2015)، مناصفة مع "جسد" للبولونية مالغورزاتا زُموفْسكا: فيلم رائع بالأبيض والأسود، ترجع أحداث قصته إلى رومانيا القرن الـ19، فترة الاحتلال العثماني.

مؤخّراً، فاز رادو جود بـ"الدبّ الذهبي" عن "مضاجعة فاشلة أو بورنو مجنون" (2021): كوميديا لاذعة وفاضحة وكاشفة، في 3 فصول، عن سلوكيات الأفراد في المجتمع الروماني المعطوب، مع تلميحٍ سياسي. كما حصلت السينما الرومانية الجديدة على "الدبّ الذهبي" أيضاً، عن "لا تلمسني" (2018) لأدينا بنتلي: أحد أغرب أفلام الموجة الجديدة تطرّفاً وتجريبية وجرأة، يجمع بين التسجيلي والروائي، في قالب ليس درامياً كالمتعارف عليه، إذْ يميل أكثر إلى التجريب وصدم المُشاهِد، نفسياً وبصرياً.

مع هذه الأسماء والجوائز، لا يُمكن الجزم بأنّ الموجة الرومانية الجديدة لم تكن موجودة، أو أنّها انتهت، أو تكاد تنتهي. فالملاحظ أنّها لا تزال تتطوّر وتتجدّد، وتدهش بين حين وآخر بأفلامٍ رائعة، وأسماء وافدة، وجوائز جديدة. هذا كلّه، والإنتاجات السينمائية الفنية في رومانيا لا تُشكّل نسبةً تُذكر من صناعة السينما الرومانية، الهزيلة جداً أصلاً. وطبعاً، لا إقبال جماهيريا يحظى به صنّاع هذه الأفلام، رغم التقدير الخارجي، والجوائز المحلية والدولية.

المساهمون