المنمنمات العثمانية.. الرحلة الطويلة نحو قائمة الـ"يونيسكو"

30 ديسمبر 2020
إحدى المنمنمات التي تصوّر تحضير الدواء في القرن الـ17 (Getty)
+ الخط -

استجابت الـ"يونيسكو" لطلب تركي-إيراني-أذربيجاني-أوزباكستاني بإدراج فنّ المنمنمات ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي غير المادي، واعتبارها إرثاً مشتركاً للإنسانية. القرار الذي صدر في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2020 اشتمل أيضاً على لعبة عثمانية تقليدية تسمى "المنقلة".  

والمنمنمات مصطلح فني يشير إلى لوحات فنية صغيرة الحجم مرسومة بدقة تستعمل عادة في تزيين الكتب ذات الموضوعات التاريخية أو الأدبية أو العلمية، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية Miniare. استخدمها العثمانيون بشكل تقليدي لتسجيل التاريخ وتوثيقه ورصد العادات والتقاليد المختلفة في الملبس والمأكل وجوانب الحياة المتنوعة. وزاد من تألق المنمنمات العثمانية تفاعلها مع الثقافتَين الفارسية والبيزنطية.

أصل هذا الفن يعود إلى زمن الإيغور في منطقة توربان بوسط آسيا في منتصف القرن الثامن الميلادي. ثم ورثه السلاجقة الأتراك وطوروه بعد تفاعلهم مع الثقافة الفارسية، وصولاً إلى الفترة العثمانية.  


 المنمنمات مصطلح فني يشير إلى لوحات فنية صغيرة الحجم مرسومة بدقة تستعمل عادة في تزيين الكتب ذات الموضوعات التاريخية أو الأدبية أو العلمية


في عهد السلطان محمد الفاتح (1432ــ1481) برز الاهتمام بالمنمنمات من خلال إنشاء ورشة الرسم الرومية في قصر توب كابي في إسطنبول، من أجل صناعة الكتب الوثائقية والتاريخية وما يخص السلطان وحاشيته. وفي عهد بايزيد الثاني (1481 ــ 1512) أسست ورشة أخرى للرسوم هي مدرسة الرسوم الفارسية في قصر توب كابي أيضاً، وكانت مكونة من الرسامين الذين تم استدعاؤهم من إيران وتخصصت في الرسومات الأدبية والشعر مثل الشاهنامه وقصة ليلى والمجنون وغيرها. 

علوم وآثار
التحديثات الحية

ومع قدوم السلطان سليم الأول (1512-1520) ظهر المطرقجي نصوح وهو رسام ابتكر نوعًا جديدًا من المنمنمات يسمى (الرسم الطبوغرافي)، فقام برسم المدن والموانئ والقلاع دون أي أشكال بشرية، كما أنشأ مجموعة مناظر ذات أبعاد مختلفة. بينما بدأ العصر الذهبي للمنمنمات مع حكم سليمان القانوني (1520ــ 1566) ثم سليم الثاني (1566ــ 1574) وصولاً إلى مراد الثالث (1574ــ 1595)، فظهر آنذاك أسلوب المنمنمات الكلاسيكي. ومن أهم الأعمال الفنية المتكاملة في تلك الفترة، مجموعة مجلدات (سيرة النبي) التي أخذت فكرة الرسومات من أحداث كتاب السيرة النبوية لمؤلفه مصطفى الضرير. تقع المجموعة في ستة مجلدات، رسمت بها حوالي 800 منمنمة، وقصد الرسامون عدم إظهار وجه النبي وكبار الصحابة في الرسومات. من تلك المنمنمات ما يصور النبي في غار حراء وهو يتسلم خبر النبوة من جبريل، وصورة لمعجزة نبع الماء الذي يفيض من بين أصابع النبي، وصورة له يزوج فاطمة من علي.

أصل هذا الفن يعود إلى زمن الإيغور في منطقة توربان بوسط آسيا في منتصف القرن الثامن الميلادي
 

أصول الكتاب موجودة في ثلاث مكتبات عالمية؛ المجلد الأول والثاني والسادس في متحف (توب كابي)، والرابع في مكتبة (تشيستر بيتي) في دبلن في أيرلندا، والمجلد الثالث والأخير يقع ضمن مجموعة (سبنسر) في مكتبة نيويورك العامة، والمجلد الخامس مفقود. ولا يعرف تحديدا اسم الفنان أو الفنانين الذين قاموا بهذا العمل، والأرجح أن الأمر لا يخرج عن مشاهير الفنانين آنذاك، وهم نقّاش عثمان، وعلي جلبي، وملا قاسم، وحسن باشا، ولطفي عبد الله.  

مع حلول عهد أحمد الأول (1603ــ 1617) بدأ يتردد النظر إلى المنمنمات بين الفني والوظيفي. وكانت المنمنمات ذات الصفحة الواحدة التي تُجمع في ألبومات شائعة، واشتهر رسم المنمنمات بين مواطني إسطنبول. وظهر من يسمون (رسامي البازار) الذين يفترشون أسواق إسطنبول ويقومون بالرسم بناءً على طلب المواطنين. ولكن في عهد أحمد الثالث (1703-1730) نشأ نوع ثقافي جديد معروف في التاريخ العثماني باسم فترة توليب، أو (الباروك العثماني) المتأثر بالباروك الفرنسي. ويمكن الوقوف على هذا التأثر في مجال المنمنمات من خلال الاطلاع على كتاب الفنان عبد الجليل ليفني الذي يحكي قصة مهرجان كبير أقيم لطقوس ختان أحد أبناء السلطان أحمد الثالث، وشارك فيه الحرفيون والفرق المسرحية والمهرجون والموسيقيون وراقصو الأرجوحة والمواطنون. حيث يظهر تأثر أسلوب ليفني بالرسم الغربي، فكانت منمنمات الكتاب مختلفة جدا عن المنمنمات السابقة.  

اعتبرت في القرن العشرين فناً زخرفياً، إلى جانب فنون الكتاب العثمانية الأخرى التي تدرس في قسم الفنون الزخرفية التركية الذي افتتح سنة 1936 

بعد ذلك، استمر تغريب الثقافة العثمانية، ومع ظهور المطبعة والتصوير الفوتوغرافي، أخذت المنمنمات تفقد مكانتها الفنية والوظيفية في الحياة التركية. إلى أن اعتبرت في القرن العشرين فناً زخرفياً، إلى جانب فنون الكتاب العثمانية الأخرى التي تدرس في قسم الفنون الزخرفية التركية الذي افتتح سنة 1936 في كلية الفنون الجميلة في إسطنبول. 

المساهمون