"المنام" لمحمد ملص: أولئك الذين ينامون ويرون حلماً واحداً

15 أكتوبر 2024
في مخيم شاتيلا عام 1982 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في عام 1948، هرب أبو أحمد من فلسطين إلى لبنان، مما أدى إلى تفاعل جديد بين الشعبين، حيث أصبح الفلسطينيون جزءاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي في لبنان رغم التحديات.

- فيلم "المنام" للمخرج محمد ملص يوثق حياة الفلسطينيين في لبنان، مسلطاً الضوء على أحلامهم وكوابيسهم التي تعكس واقعهم المعقد والمشترك مع اللبنانيين، مما يبرز التحديات النفسية والاجتماعية.

- الأحلام في الفيلم تعكس رغبة الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم، وتظهر كوسيلة للتعبير عن الأمل والمقاومة، مع تأثير الأحداث السياسية والاجتماعية في لبنان على حياتهم.

في إبريل/نيسان من عام 1948، قبل وقوع النكبة بأيام، رسا زورق "يافا" على شاطئ صور قادماً من سواحل فلسطين، "يافا" الذي أبحر فيه أبو أحمد هارباً من الاحتلال. كانت رحلة أبي أحمد هذه إرهاصات مرحلة جديدة مشتركة في تاريخ الشعبين اللبناني والفلسطيني. لم يمض وقت كثير، حتى بات "يافا" يبحر إلى جانب قوارب صيد لبنانية، يحمل فيها الصياد الفلسطيني حصته من سمك البحر الأبيض المتوسط، لكن هذه المرة من بحر لبنان وليس فلسطين.
استقر أبو أحمد، أخيراً، في صيدا؛ فمناخ المدنية اللبنانية بدا له "كمناخ يافا بالزبط"، على حد تعبيره الذي يرد في شهادته المصورة بفيلم "المنام" (1987). يؤرّخ المخرج السوري محمد ملص في فيلمه الوثائقي (45 دقيقة)، إلى جانب قصة أبي أحمد، عشرات القصص الفلسطينية في لبنان، عدا عن أحلام ورؤى وكوابيس، أو بتعبير أعم منامات الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في لبنان في شريطٍ يسجّل جانباً ذاتياً ونفسياً من حياة فلسطينيي الشتات.
في أحلام الذين تعرضوا جميعهم للتهجير والشتات، ونجا معظمهم من مذابح، تذوب الأنا بالجماعة، ويتفاعل صاحب المنام مع الفضاء الجغرافي، فيصبح الفرار والدماء والسلاح مفردات تكاد تكون مشتركة لدى الحالمين الذين قابلهم ملص.
يضع المخرج بين أيدينا وثيقة سجّل فيها بعضاً من يومياته في كتاب ملحق بالفيلم صدر عن دار الآداب بعنوان "المنام: مفكرة فيلم"، يتناول مرحلتي الاستطلاع والتصوير، إضافةً إلى بعض الظروف التي عاش فيها فريق العمل في لبنان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
حمل الكتاب، إلى جانب الفيلم، مادة فريدة من الذاكرة الجمعية الفلسطينية، سبر أغوارها المخرج، الذي ولد في مدينة القنيطرة السورية عام 1945، وعاش هو الآخر رحلة النزوح عن أرضه مع عائلته بعد احتلال الجولان إبان نكسة حزيران 1967. ومع أن الفيلم "هَدفَ إلى التعبير عن الحالة الفلسطينية للفلسطيني"، وفقاً لملص، لكن عناصر أخرى تسللت إلى "المنام" لتكشف من خلال أحلام الفلسطينيين درجة التشابك بين مصائر أبطال الفيلم الحالمين ومضيفيهم في لبنان، وتمتد مناماتهم إلى أن تغطي رقعة واسعة من الشتات الفلسطيني من لبنان إلى سورية والأردن، وغيرها من الدول العربية والأوروبية.
ربما تكون العقبة الأولى والأهم أمام مشروع لسبر أغوار لاوعي الفلسطينيين هو شعورهم بأنّهم، بعد أن نزحوا من أرضهم، أصبحوا الآن ضيوفاً في بلادٍ جديدة، ولذلك لا يتوانون عن ذكر أراضيهم وبيوتهم في فلسطين، كما لو أنّهم يؤكدون لمن حولهم أن لهم خلف الحدود أرضاً وبيوتاً وأهلاً.
تروي إحدى النساء في المخيم حلمها، وكيف عادت إلى فلسطين ودخلت حارة المجادلة في عكا، ولكنّها اصطحبت معها في رحلة العودة نسوة لبنانيات فقط ليرين كيف هي فلسطين. فالزوار الكثر الذين قدموا إلى المخيمات زادوا شعور سكانه بالعزلة.
ربما أشعرتهم الكاميرات التي كثيراً ما تثبت أمام وجوههم، أنهم مادة للاستعطاف أو الفرجة، لذلك استقبلت أم نمر فريق التصوير القادم من دمشق بشيء من النزق، وقالت بلا مقدمات "اسمي ام نمر، بنريد إنكو تعرضوا وتحكوا بالفلومة تبعكم قديش نحنا مضطهدين، وإنه ما حدا عم بيفكر فينا بالخير، نحنا ما بنحب يشوفونا الأجانب حتى لا يشمتوا فينا!". فهؤلاء الضيوف الثقال يأتون أيضاً في الأحلام، فيروي أبو تركي كيف زاره الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون، ومد يده ليصافح أبو تركي الذي ارتبك بسبب يده "المشحبرة"، فكان قبل ظهور الضيف ينظّف موقد البريموس بينما يقف أمامه شمعون بلباسه الأبيض النظيف.
مع أن الفيلم عَرض، حصرياً، شخصيات فلسطينية، لكن فصلها عن الفضاء الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي اللبناني المحيط لم يكن بالأمر الهين، بل إن حالة فريدة من التمازج فرضت نفسها، فتسلّلت أصوات الشوارع اللبنانية المحيطة إلى أزقة المخيّم الضيقة، ويمكن سماعها في شريط "المنام" الصوتي. وكذلك نستكشف، عبر مشهدٍ بانوراميٍ بعد أن ثُبّتت الكاميرا على سبطانة مضاد جوي، سماء المخيّم وبيوته، وهناك في الأفق بيروت حاضرة وتفرض وجودها على السياق السينمائي للفيلم، فالفضاء الجغرافي عكَس إلى حد كبير ملاحظات ملص، وهذا ما دفعه من بداية العمل أن يصوّر التراكب المعماري، ويستعمل الإيهام لبناء الحيّز المكاني في المخيم، فبيوت شاتيلا وأزقتها بدت له متراكبة يصعب الفصل بينها، إذ تظهر كما لو أنها فضاءٌ واحد متصل "تتلامس فيها أنتينات التلفزيون"، ويصبح المخيّم بيتاً فلسطينياً واحداً امتدّ على أرض لسعد الدين باشا شاتيلا جنوب بيروت، وتحوّل في أواخر 1982 ليكون مسرحاً لواحدة من أبشع المجازر في التاريخ الفلسطيني، وظل بعدها مصير عدد من شخصيات الفيلم مجهولاً.
إحساس الغربة عن المكان ظلّ حاضراً بلا شك، لكن العمال الفلسطينيين اشتغلوا إلى جانب عمال لبنانيين في معامل غندور وغيرها، وعاشوا معاً أيام الحرب السوداء. كان الفلسطينيون طرفاً في حربٍ أهلية، وتسللت أشباحها إلى أحلامهم تماماً مثل غيرهم من اللبنانيين. وعلى ذكر الكابوس اللبناني الفلسطيني المشترك، رأى عمر في منامه نفسه تائهاً في بيروت الشرقية. وهناك يوقفه حاجز للكتائب، بين عناصره كان بشير جميّل برفقة القوات، يهدّد الفلسطيني التائه بأشد العقاب. يهرب الشاب راكضاً في زقاقٍ فرعي من دون أن يستطيع الخروج من متاهات "الشرقية". الكابوس نفسه تسلّل إلى نوم خائفين كثيرين، لم تشفع لهم جنسياتهم اللبنانية أو الفلسطينية.

العدو واحد والجغرافيا متشابهة، والقاتل ذاته، والمذبحة هي عينها، أما الضحية فهو فلسطيني على أرض لبنانية، أو لبناني في بلاده، والوطن هو الوطن، سواء مخيم في لبنان أو خارج المخيم وطن لا يوحي بالاغتراب. هكذا شعر سعيد ابن المخيم حين رأى في حلمه أنه يمشي في شوارع بيروت، يقول: "مش عارف ليش الشوارع قديمة والأبنية عتيقة ومدري ليش بتحس حالك كأنك بتعرفها وإنك مش غريب فيها".
المخيم القابع على أرض خارج الحدود الفلسطينية، هو فلسطين في أحلام أبناء الشتات. إنه التعبير الفيزيائي عن وجودهم، ولذلك تبقى أحلام العودة ناقصة، ويبدو المخيم الذي جمع أبناء المدن الفلسطينية كلّها كأنه وطن مصغر، فعند العودة سيذهب كلٌّ إلى مدينته ويتلاشى هذا الوطن. هذا بحدّ ذاته كابوس عند فيصل الذي أعاد المخيم له تشكيل كلمة وطن.
"يلي من حيفا رجع لحيفا، ويلي من يافا رجع ليافا"، وظلّ فيصل وحيداً في حلمه، هو في الواقع لديه أمنية طفولية تلخص علاقته بالوطن، ألا وهي أن يسكن كل من كان في المخيم في مكان واحد في فلسطين، أن يبنوا مدينة أو قرية جديدة، أو حتى مخيّماً! تماماً مثل شاتيلا الذي عاش فيه.
يكثّف محمد ملص في كتابه "المنام: مفكرة فيلم" بعضاً من الدلالات التي فُسّرت أمامه: "الخاروف رزقة، والطير جمعٌ للشمل، والزيتون جنة، والبحر حيرة، والخضار أمل، والفواكه بغير موسمها خسارة، والسيارة نعش، والحذاء عريس، والمي إذا عكرة مش منيحة، والموت حياة، واللبن كفن، والذهب ضيق، والبوابة طائرة إسرائيلية". مفردات الحياة والموت، الأمل والخسارة، الضياع والاستقرار، حاضرة في أحلام الفلسطينيين وتفسيراتها. والدلالات الشعبية هذه عكست خصوصية أصحابها وتجاربهم، فالأحداث تتكرّر والطائرات الإسرائيلية تقصف اللبنانيين كما تقصف غيرهم من الفلسطينيين. وخيالات جنود الاحتلال ليست حكراً على أحلام الفلسطينيين. في "مفكرة الفيلم"، يدوّن الكاتب ملاحظته: "الشعب في وادٍ (المنام) والتعبير السياسي الراهن الممثل له في وادٍ آخر (أحلام اليقظة)". لكن المنامات تبدو كما لو أنّها حالة تصالحٍ فريدة بين اللاوعي ورقيبه، فالعودة والمقاومة والتوق إلى التحرير والنصر جزءٌ من وعي الفلسطينيين وهي المدخل الأساس لتفسير أفعالهم وأحلامهم.
ربما بدا "الغرباء" الذين دخلوا المخيم مع معدات تصوير استعاروها من التلفزيون السوري، منفصلين عن الواقع يهتمون بأحلام كل من يحدّثهم أو يرافقهم في المخيم، لكن شعوراً بالألفة سرعان ما سيطر على العلاقة بين فريق عمل الفيلم وسكان المخيمات في لبنان، بل باتوا ينادونهم من بعيد ليروا أحلامهم الجديدة، ولم يكن من الواضح حتى تلك اللحظة أن الأشهر والسنوات القادمة ستكون بتلك القسوة، فالحرب الأهلية المستمرة والاجتياح ومجازر صبرا وشاتيلا تركت ثقلاً كبيراً على الفيلم وأخّرت إنجازه. لم يستطع "المنام" تجنب كل ذلك، حتى بالرغم من موضوعه الأساسي. الفلسطينيون يحلمون باستشهادهم، ويحملون نعوشهم في التشييع مع أصدقائهم. هم أحياء رغم موتهم وهذا تحديداً ما نراه في الفيلم.

الحياة في المخيّم قاسية، وكذلك كانت في لبنان، وهي إحدى قواسم مشتركة كثيرة بين الشعبين تظهر اليوم أمامنا بوضوح. نضال في الفيلم يقول لفريق التصوير: "شو بدكن أحكيلكن؟ شو بدك أقلك؟! أنا ما بعرف الناس شو بدا مني! إنت سألني وأنا مستعد أجاوبك".

المساهمون