المصائب أكثر في المشهد السينمائي العربي

08 مارس 2024
فوز "الليل"، لمحمد ملص، بجائزة سينمائية غير مؤثّر في تسويقه (مايكل باكْنِر/Getty)
+ الخط -

من نافل القول تكرار أنّ السينما الابنةُ الشرعية لفعالية علوم الفيزياء والكيمياء أولاً. بعدها، تشعّبت تطبيقاتها ومنتجاتها، وتخصّصت، والفيلم السينمائي أحد الاختصاصات، أو أدب السينما، أو الأدب "المَبْصور"، إذا صحّت التسمية. بدوره، تشعّب الاختصاص إلى أنواع وأجناس، طاولت كلّ ما يُمكن تحويله إلى حكايةٍ يمكن رؤيتها بصرياً، شرط حصولها على التمويل المناسب. هذا وضعها في سكّة الفعاليات الاقتصادية، لتدخل في دوائر العرض والطلب، وما يرافقها من أبحاث التطوير والتسويق، وما يرافقها من فعاليات الدعاية والإشهار. هذا جعل المهرجانات فعاليةً ضرورية، تعبر حركية "المؤسّسات" السينمائية في سعيها إلى تحسين "السلعة" السينمائية التي تكون في طريقها إلى إعادة الإنتاج.

التميّز والجدارة والإبداع أقانيم تزعم السينما أنّها من بنيتها الفنية. هذه الأقانيم في حاجة إلى تقييمٍ يُجريه أهل الاختصاص المدعومون من أهل المال، ما يعني إقامة مناسبات تحتفي بها، في محاولة لإنصاف أهل الإبداع السينمائي، بالجوائز والتكريمات، ودعم المؤسّسات الاستثمارية بالإشهار والتكريس، ما يُفيد في زيادة التسويق، واستمرار الإنتاج.

على هذا الأساس انطلقت جائزة "أوسكار" في هوليوود عام 1929، مكافأةً للمُجلّين في عالم الترفيه، ثم لحق بها مهرجان فينسيا عام 1932 با عتباره أول مهرجان سينمائي، تبعه مهرجان كان عام 1946، فمهرجان برلين عام 1951. أمّا الأفلام العربية، فانتظرت عام 1966 لتأسيس مهرجان قرطاج التونسي، مع الإشارة إلى مبادرة المصرية عزيزة أمير، عام 1936، حين حاولت تأسيس مهرجان في القاهرة، يحتفي بهذه الصناعة الوليدة.

تتحوّل المهرجانات السينمائية وجوائزها إلى حالة تكريس وتطويب، ليس للحاصلين على إحدى تلك الجوائز فحسب، بل لمجرّد المشاركة في عروض هذا المهرجان أو ذاك وفعالياتهما، وذلك بحسب قيمة المهرجان نفسه، المحتاج إلى الثقة به عبر دوراته المتوالية، لتتحول مخرجاته إلى شهادات جودة، يشهد عليها التحكيم الحازم، وقدرة الأفلام على التنافس، ضمن شروط معيارية أرستها مؤسّسات ثقافية متخصّصة بالشأن السينمائي، وأخرى لها علاقة بالرأي العام، المرتبط بالتسويق. من هنا، يمكن النظر إلى ضرورة المهرجانات وأهميتها، وفي الوقت نفسه يُنظر إلى السينما وضرورتها الحياتية. لذا، تبدو المهرجانات الناجحة وجوائزها مرجعية مهمة في توجيه الإنتاج والاستهلاك السينمائيّين.

على هذا، يمكن النظر في أمر المهرجانات السينمائية العربية، برصد تأثيرها على إعادة الإنتاج، وعلى تحفيز المتلقّي إلى استهلاك هذه السلعة الإستراتيجية.

على الرغم من أنّ فكرة المهرجانات وصلت إلى العالم العربي على طريقة "نسخ ولصق" من الخارج، فإن التفاصيل الضرورية لإقامة مهرجان، دولي أو محلي، ضاعت في الترجمة. فالمرجعيات المؤسّساتية (الثقافية والاقتصادية والبحثية والإحصائية)، التي تدعم مصداقية المعايرة، مفقودة إلى حدّ كبير، فضلاً عن المرجعيات الصناعية والحرفية (لا يوجد أي مصنع ينتج شريط سيلولويد في أي بلد عربي، مثالاً). هكذا، يتحوّل أي مهرجان سينمائي عربي إلى كرنفال خيري، ومناسبة لتجمّع ذوي الاهتمام الخاص بالسينما، وهؤلاء هم من تعنيهم جوائز هذه المهرجانات التي صنعت دائماً أحقاداً وعداوت في الصراع عليها، في خضم ملتقى خيري، يقارب بين السينمائيين "الأخوة".

هذا يُفقد الجوائز قيمتها المعنوية، ولا يؤثّر عملياً في قيمتها التسويقية. لم يؤثّر "التانيت الذهبي" لمهرجان أيام قرطاج السينمائية في انتشار "الليل" (1992) للسوري محمد ملص في الأسواق، رغم حصوله على الجائزة قبل وصوله إلى المهرجان، وقبل انتهاء عملياته الفنية. أوساط "قرطاج 1992" أشارت إلى ذلك في حينه، والتأثير طاول سمعة المهرجان، لكنّ الفيلم نفسه لم يتحوّل إلى "خلّي بالك من زوزو" تسويقياً.

سينما ودراما
التحديثات الحية

بالتأكيد، هناك تشابه مرير بين المهرجانات العربية، من ناحية الثقة بأحكامها، التي تتحكّم فيها تقاسمات غير مضبوطة، من مؤسّسات مرجعية، إذْ أنّها لا تعني شيئاً للمتلقي، إحصائياً، أو من ناحية الثقة بمعايير هذه المهرجانات. لنا عبرة في "تراب الغرباء" (1997)، للسوري سمير ذكرى الفائز بجائزة مهرجان القاهرة. فالفيلم لم يحقّق أي حضور جماهيري، رغم شهادة التكريس التي تهدف إليها الجائزة.

من جهة أخرى، تُلاحَظ في المهرجانات العربية تلك الخصلة من التحفّظ السياسي و"الأخلاقي" الذي يتطوّر ليصبح رقابة على الإبداع، في مناسبة خصوصية كالمهرجانات، فتبدو سقوف الإبداع محدودة، في ظلّ ربط الإبداع بشروط خارجة عنه.

لذا، يُمكن تخيّل عدد الأفلام المرفوضة من المشاركة بسبب هذه الشروط، وذاكرة لجان قبول الأفلام تعجّ بعناوين "المرفوض"، وكذلك بالشروط الحلزونية للقبول في هذه المهرجانات، ما يجعل التنافس ـ باعتباره قاعدة تأسيسية لفعل المهرجان ـ أعرج. فالتنافس منقوص، ولا يصلح معيارياً، فكيف إذا عمل مقص الرقابة في تشكيل الشريط ولغته السينمائية، كما حصل في "مهرجان دمشق" عام 1997، حين نال البرازيلي كارلوس دييغوس، عن " أنيتا الأغريسية"، الجائزة الذهبية، مناصفة. لكنّ الفيلم، الذي عرض على الجمهور، كان ناقصاً، إلى درجة أنّ النقص يؤثّر على الحكاية برمّتها، بحجّة أنّ فيه مشاهد كثيرة للباسٍ غير محتشم (أي كما يلبس البرازيليون، عادة)، ولم يعرض تجارياً، ودُفِن حتى إنه لم يظهر لجمهورٍ يعتبر أنّ المهرجان مهرجانه، وجائزته "موثوقة"، فيستحقّ المشاهدة.

بالتأكيد، يمكن رصد كميات من رفض الأفلام في هذا المهرجان أو ذاك، لكنّ تفعيل الرقابة يُضعف كثيراً من قيمة الجائزة، وتأثيرها.

الثقة بالجوائز تُبنى وتتراكم وتؤرشف في مؤسّسات سينمائية متنوّعة، تُشكّل تاريخاً وخبرة تقييمية لهذه الجائزة أو تلك. فتراجع مستوى جوائز "مهرجان الأفلام المستقلّة (صندانس)" نابع، أساساً، من تخلّيه، رويداً، عن الأسس المعيارية الصارمة التي تأسّس عليها، وهذا في بيئة مفتوحة على النقد، فما بالنا بمهرجان من العالم الثالث، يتأسّس على مبادرات فردية، وجهد خيري، عليه الخضوع لكلّ إشارة من المموّل، "فاعل الخير".

لمحة عابرة عن أحوال المهرجانات السينمائية التي ينفّذها مبادرون عرب في الغرب: إنّها تحمل في طياتها ميوعة معيارية ـ تحكيمية كثيرة، فتتحوّل إلى نسخ مكرّرة عن المهرجانات العربية، لكن بشكل "قزميّ" متهافت، ومناسب للسياحة والاصطياف، أو لطلب اللجوء، لكنّها في المحصّلة جهود مشكورة، لتوفيرها مناسبات دعم وتمويل من منظّمات غير حكومية، ومع هذا مشكوكٌ في أنْ يكون لجوائزها أي قيمة أدبية أو تسويقية.

هذه ليست دعوة إلى الإعراض عن تقييمات المهرجانات العربية وقيمة جوائزها، بل إلى شدّ "حَيْل" هذه المهرجانات، في الإخلاص لمعاييرها التي وضعتها وقبلت بها. فالطرق الملتوية في منح الجوائز تضيف قيمة سلبية للعمل السينمائي، بسبب تهافت الثقة بها، وهذا التهافت تراكميٌّ أيضاً، إذْ لا يبقى من المهرجان سوى أخبار ملابس الممثلات، و"خناقات" المتنافسين على جوائز، يستحقّها أي مشارك فيه.

المساهمون