المحققون غير النظاميين: جماليات الرعب ما قبل انتشار الكهرباء

12 يوليو 2021
في كلّ حلقة، مكانٌ خطر، ومهمّة محدّدة، وعراقيل مفاجئة يجب مواجهتها (فيسبوك)
+ الخط -

هذا تحقيقٌ بوليسيّ، يمزج الخيال العجائبي بالعلم، في سلسلةٍ تستلهم الرواية السوداء، بعنوان The Irregulars (أو "المحققون غير النظاميين")، التي ابتكرها البريطاني توم بيدْوَل (8 حلقات، تعرضها المنصّة الأميركية "نتفليكس" منذ 26 مارس/ آذار 2021). البطلة مُراهِقة تُدعى بي (ثاديا غراهام)، ذات ملامح شرق آسيوية (لاستقطاب السوق الصينية الضخمة)، تكتشف الحياة في قبوٍ وسط حيّ شعبيّ في لندن، نهاية القرن التاسع عشر. تلتقي أميراً مُتنكّراً، ينزل من قصره لاستكشاف لندن الحقيقية، التي يعيش فيها شعبه. للبحث عن معلومات حقيقية في الشارع، يجب التعامل، بل الاحتكاك مع من يعيش فيه. تهيمن الخرافة على العقول، لكنّ سلطة المال تَحُلّ المشاكل.

هناك، تقع جرائم في مكانٍ مُظلم وغامض. يمثّل زمن ما قبل انتشار الكهرباء فضاءً مُلائماً لتصوير مَشَاهد المطاردة في الظلام، في فضاءات مجهولة. في زمن الكهرباء، صار الفضاء مُضاءً، وله تصميم معلوم. هذا يُقلّل خوف من يجتازه، وخوف المُشاهد. جرى التصوير بجمالية كبيرة، تشبه لوحات كارافجيو. توزيع مناطق الضوء والظلّ في اللقطات مُبرّر، لأنّه يَرجع إلى مرحلة ما قبل انتشار الكهرباء. يتشارك نقص الضوء وتعقيد المخطوطات اليدوية في تقوية الغموض. يصعب الحصول على الأثر نفسه بعد انتشار الكهرباء، والكتابة الآلية، وتطبيقات تحديد مواقع الأفراد. النور مُضرّ بالمجرمين، وبتشويق المُشاهدين. التصوير في النور مُملّ، لأنه يُبعد المسلسلات والأفلام عن عالم الشرّ. يجري الانتقال من الحديث عن الظلام إلى الحديث عن ظلمات اللاوعي، التي تجعل الفرد كائناً مجهولاً لنفسه ولغيره. للقضاء على الشرّ الغامض، الذي يُهدّد لندن، جُمع منهجان متناقضان: تحقيقٌ سببيّ عقلانيّ، يفحص النتائج، ليكتشف الأسباب؛ وتحقيقٌ عجائبي، يستثمر الخرافة والقدرات الخارقة لدى بعض الأفراد الاستثنائيين.

جَنّد المحقّق الإنكليزي الأنيق شابّة غير طبيعية، في قرنِ انتصار الإنسان على الطبيعة. تستخدم الشابّة قدرات خارقة، لتوقع المصائب، وتجري لمنع حدوثها. في المقابل، يستثمر ضابط شرس الأسطورة العقلانية لـ"سكوتلاند يارد" في مناهج التحقيق بسرعة وكفاءة، لضبط المجرمين. نتعرّف إلى شارلوك هولمز، المُحقّق المتخصّص في التنكّر والتمويه، الذي يدرس بقايا النبات للوصول إلى المجرم. يُناضل شارلوك هولمز لإثبات تفوّق خططه العقلانية، فيخضعه خصومه للتنويم المغناطيسي. في الحلقة الثالثة، تعقد البطلة صفقةً معه، فتحصل على ترقية طبقية فورية مؤقّتة. تقدّم السلسلة سرداً هجيناً، يضفر خطّين في قرن انتصار العلم. تظهر ضرورة العجائبيّ لكشفِ أسرار النفس البشرية، مع لمسة عصرية جداً: أشباحٌ تحمل أرقاماً سرّية، لا أسماء تقليدية. أذهان مُتّصلة كأنّها حواسيب. غربان لا تخضع للطبيعة، لأنّها مُوجّهة ومُبرمجة. وقائع سردية أشبه بألعاب فيديو، تحاول أنْ تهزم من يلعبها.

هذا ما تحاول السلسلة استثماره. يخمِّن المُشاهد اللاعبَ. يفرح حين تتحقّق توقّعاته، وحين يفشل، يزداد تركيزه لاكتشاف المآزق التي تقع فيها الشخصيات. تتردّد في الحوارات تعابير "لعبت" و"خسرت" و"انتهت اللعبة". تطوّرت السرديات، وراكمت منجزات مهمّة، خاصة في السينما وألعاب الفيديو التفاعلية. هذا يجعل الأفلام والمسلسلات تتشبّه بألعاب الفيديو. صار استخدام الحِيَل والأساليب نفسها مُهيمناً. حيلٌ تخلق فرجة آنية، مبنيّة على خدع بصرية، وعلى الانزياح عن سنن سردية تقليدية. في السلسلة، تحبّ البطلة، ذات الملامح الصينية، أميراً إنكليزياً. هناك احتمالٌ بأنْ يولد لهما طفلٌ، فتحكم الصينُ العالمَ.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في السلسلة، طيورٌ عجيبة، ومطاردات، وأسئلة تطرح ألغازاً بطوبة شبابية. سحرٌ وأرواح شريرة. عنفٌ شديد. أمواتٌ يمشون كما فعلوا رقصاً في "فيديو كليب" لمايكل جاكسون. تتكرّر المَشاهد الدموية بسبب الغراب، طائر النحس. بالنظر إلى انبعاث غربان هيتشكوك، في سلسلة تجري أحداثها في القرن التاسع عشر في لندن، هناك افتراضٌ في أنّ الحكايةَ عريقةٌ وشهيرة، بحيث يتعذّر اتّهام من صَوّرها بالسرقة السينمائية.

تحقيق بوليسي، يمزج الخيال بالعلم، في سلسلةٍ تستلهم الرواية السوداء. سردٌ يستثمر مُشاهدات سابقة للمُشاهِد، لتوليد التشويق. يحتاج المُشاهد إلى معرفة معلومات كثيرة، ليتابع حِيَل السحر، وتحقيقات شارلوك هولمز. من هو المُشاهد الذي صُمِّم له هذا المسلسل، وأشباهه؟ مُشاهدٌ من جيل الإنترنت. مُراهقٌ ينتقل إلى مرحلة الشباب، فتتغيّر عادات التسلية لديه. مُشاهدٌ مسترخٍ جسدياً على أريكته، لكنّه مستعجلٌ نفسياً، يبحث عن تسلية فورية من دون بذل جهد وتركيز كبيرين للفهم. لذلك، يقوم المخرج والسيناريست بجهد الإفهام، حتّى بقيام الشخصيات بقراءة ورقة تقدّم المعلومات كاملة. بالتزامن مع المعلومات، يجري إمتاع عين المُشاهد بالأضواء والألوان والبرويتاج، ليشعر بأنّه يصعد سُلّم الفرجة.

في كلّ حلقة، مكانٌ خطر، ومهمّة محدّدة، وعراقيل مفاجئة يجب مواجهتها في زمنٍ قصير. أربع شخصياتٍ، تتقاسم المهام لهزم الخصوم. قوانين سرد تليق بألعاب الفيديو، ويضغط المخرج على أزرارٍ، فتجري شخصياته نحو أهدافها. هكذا تدفع ألعاب الفيديو بالسرديات إلى آفاقٍ، تسير بسرعة رهيبة. كلّ ذلك لاستقطاب مُشاهدين ضجرين من جيل جديد. تمّ تطوير أكثر السيناريوهات تطرّفاً وعنفاً، باستثمار قصص معلومة للجمهور، والمزج بينها. سردٌ هجين، يستعيد شخصياتٍ متخيّلة شهيرة، ووقائع وصُوراً قديمة، تُشبه لوحات فنية، لالتقاط أذواق مختلفة، وإرضائها. هذا يتطلّب مساحة زمنية كبيرة، تتوافر عليها السلسلة، ولا تتوافر للفيلم، الممتدّ على ساعتين تقريباً.

المساهمون