أجبرت الاحتجاجات التي خرج فيها عشرات العراقيين أمام مدينة "سندباد لاند" الترفيهية، في العاصمة بغداد، على إلغاء الاحتفالات الغنائية التي كان من المفترض أن تُجرى في أعياد رأس السنة. كما ألغت إدارة المدينة عقودها مع الشركات المتعهدة بنقل فنانين ومغنين عرب من لبنان ومصر ودول أخرى إلى بغداد، لإقامة مهرجانات وفعاليات فنية وغنائية تكون الأولى في البلاد بعد سنوات من غيابها جرّاء الأحداث العراقية ابتداءً بالاحتلال الأميركي عام 2003، مروراً بالأزمات الأمنية، وآخرها صفحة الحرب على تنظيم "داعش".
وشهدت مدينة "سندباد لاند" القريبة من نصب الشهيد العراقي في بغداد، الأسبوع الماضي، احتجاجات قادها أفراد في فصائل مسلحة، وآخرون لبوا نداءات لرجال دين أبرزهم جعفر الإبراهيمي الذي برز أخيراً في مجموعة إساءات كلامية وجهها للممثل والمغني محمد رمضان، منتقداً الحفلات. وأطلق الإبراهيمي عبارات وصفت بالعنصرية ضد رمضان، ما دفع الأخير للرد عليه بالقول "كيف من بيت الله تعترض على لوني الذي خلقه الله؟".
وتكررت ظاهرة الاحتشاد والتجمع للعشرات من المواطنين الرافضين للحفلات أمام مدينة "سندباد لاند"، المملوكة لمستثمرين عراقيين ولبنانيين وتحتوي أيضاً على مبنى لمحطة تلفزيونية اسمها "بابلون". ورفع محتجون لافتات عبّرت عن رفضهم لحفلات الغناء، كما حذروا من تكرار إقامة هذه الحفلات الغنائية، معتبرين إياها "شيطنة" للمجتمع العراقي وأن من يطالب بإقامتها "يُناصر الشيطان". وحظيت هذه الاحتجاجات بدعمٍ إعلامي من منصات ومواقع ومحطات تلفزيونية تتبع فصائل مسلحة، سبق أن وجهت لها اتهامات بقتل الناشطين المدنيين والصحافيين والتورط بانتهاكات حقوقية واسعة في مناطق شمال وغرب العراق خلال، عمليات تحرير المدن من سيطرة تنظيم "داعش".
مصادر مقربة من "سندباد لاند": حملة ممنهجة عمرها سنوات تستهدف المدينة الترفيهية التي ترفض أياً من أشكال الابتزاز المالي من قبل بعض الجهات المرتبطة بفصائل مسلحة
وسبق أن احتج العشرات أمام بوابة عشتار في مدينة بابل الأثرية، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لمنع إقامة مهرجان بابل الدولي الذي شارك فيه عشرات الفنانين العرب والفرق الموسيقية العربية والأجنبية. لكن الحكومة العراقية تدخلت حينها، وأصرت على إقامة المهرجان، إلا أن التهديدات لإقامة الحفلات الغنائية هذه المرة استمرت ولم تتراجع، وهو ما يصفه ناشطون بأنه محاولات لفرض إرادات سياسية ودينية ومتطرفة على المجتمع العراقي الذي عُرف عن كونه محباً للغناء والفنون، كما دفع مدنيون وناشطون في مجالات حقوق الإنسان والحريات إلى إطلاق حملات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، أكدت المفاهيم المدنية، ومنها شعار "بغداد مدنية وليست دينية".
وتواصلت "العربي الجديد" مع مصادر قريبة من إدارة مدينة "سندباد لاند" في بغداد التي قالت إنها "فضلت إنهاء التعاقد مع الشركة المصرية المتعهدة بتأمين زيارات للفنانين العرب إلى بغداد، ومنهم المغنون، على أن يشتد الاشتباك والصراع الإعلامي والشعبي داخل المجتمع العراقي، مع العلم أن إدارة المدينة خسرت الكثير من الأموال".
وبينت المصادر نفسها، لـ"العربي الجديد"، أن "رفض الفصائل المسلحة وبعض رجال الدين المتشددين للحفلات الغنائية ليس هو أصل الموضوع، بل إن هناك حملة ممنهجة تقف بالضد من المدينة الترفيهية وتعود إلى سنوات، إذ ترفض إدارة (سندباد لاند) أياً من أشكال الابتزاز المالي من قبل بعض الجهات المرتبطة بفصائل مسلحة، وتعرضت لأكثر من مرة إلى تهديدات بالإغلاق في حال لم تدفع الإدارة لبعض المبتزين".
ولفتت إلى أن "حفلة محمد رمضان كانت شماعة المتطرفين لإغلاق مدينة (سندباد لاند)، خصوصاً أن الأسابيع الماضية شهدت فيها المدينة إقامة حفلات عدة، منها للبنانية إليسا والعراقية رحمة رياض أحمد، لكن معظم المعترضين ظهرت أصواتهم عقب حفلة محمد رمضان، رغم أنها كانت حفلة لا تختلف عن بقية الحفلات".
صمت رسمي عراقي إزاء الاحتجاجات الأخيرة والإعلان عن إلغاء حفلات خُطط لها
وفي إعلان شركة "سندباد لاند" عن إلغاء الحفلات الغنائية وتعاقداتها مع عدد من النجوم العرب، بينهم عاصي الحلاني الذي كان من المفترض أن يزور بغداد ويقيم حفلاً فيها، ذكرت الشركة في بيان أنه "احتراماً وتقديراً لكل مراجعنا الكرام واتفاقاً مع نهجنا الدائم الذي نلتزم به ولا نحيد عنه، تقرر إلغاء كافه الاحتفالات والحفلات الفنية المتفق عليها وإنهاء العقود مع الشركة المصرية الراعية لهذه الاحتفالات التي عملت على إدارتها، وكلنا ثقة بتفهم الجميع بأن أهدافنا دائماً وستبقى مليئة بالاحترام والتقدير لوطننا وشعبنا العظيم".
هذا البيان وصفه الناشط المدني نبراس أيوب بأنه "انكسار للحريات الشخصية". وقال أيوب، لـ"العربي الجديد"، إن "منع إقامة الحفلات الغنائية في بغداد، وغيرها من المدن، هو ملف سياسي وليس دينياً، وهو مؤشر خطير لقمع الحريات والحقوق الشخصية للعراقيين، وهناك تواطؤ حكومي من وزارة الثقافة مع المتشددين بالسكوت عنهم، وقد يؤدي الصمت الحكومي على تمادي المتطرفين إلى منع مزيدٍ من الحفلات"، مبيناً لـ"العربي الجديد" أنه "منذ خسارة بعض الأحزاب الدينية وأجنحة لفصائل مسلحة في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أكتوبر، تحاول أن تجد أي ملف لإثارته وإثبات وجودها، وعلى الحكومة أن تحمي المجتمع المدني".
وأشار إلى أن "مدينة (سندباد لاند) تعتبر ملكية خاصة ولا يجوز التجاوز عليها، كما أن العراق لم يكن بلداً متديناً أو متطرفاً ولا في أي لحظة من تاريخه، وهناك من يسعى إلى جعله وفقاً لمزاج ديني واحد"، مبدياً مخاوفه من استمرار "التأييد السياسي والدعم الإعلامي لحملات المتشددين الراغبين بإسكات كل الأصوات المدنية، ما يستدعي تدخلاً حكومياً وأمنياً لحماية المنشآت الراعية للفنون والثقافة".