استمع إلى الملخص
- يعرض الفيلم العلاقة المعقدة بين كُون وترامب، وتأثيرها في مواقف مثل الاحتيال على والده وعدم اهتمامه بشقيقه، مع تسليط الضوء على رحلة كُون الشخصية وانهياره بسبب مرض الإيدز.
- يُعتبر الفيلم تجربة سينمائية مميزة، عُرضت في مهرجان "كانّ"، ويتميز بأداء رائع من الممثلين وتوليف دقيق يعكس عمق الشخصيات.
يُمكن مقاربة "المتدرّب (The Apprentice)"، لعلي عباسي (مخرج دنماركي ذو أصل إيراني، مولود في طهران عام 1981)، عبر شخصية تبدو ثانية لوهلة، قبل أنْ تُظهر حضوراً، يمنحها وصف الدور الأول. فالفيلم، الذي يستعيد فترة شبابية لدونالد ترامب (1946)، لن يبقى أسير شخصية المُرشّح ثانية إلى انتخابات رئاسة الولايات المتحدّة الأميركية (5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، بقدر ما ستكون شخصية المحامي روي ماركوس كُون (1927 ـ 1986) ركيزة درامية للحكاية برّمتها، التي تكشف، في الوقت نفسه، البدايات التأسيسية لشخصية ترامب.
كُون يشتهر فعلياً في مرحلة التحقيقات الماكارثية (1950 ـ 1954)، المعروفة بـ"مطاردة الساحرات"، أي كلّ من يُشتَبه بأنّه/أنّها شيوعي. الأشهر في تلك الحقبة، بالنسبة إليه، قضية الزوجين إيتل ويوليوس روزنبرغ، المتّهمَين بالتجسّس للاتحاد السوفييتي (يُحكَم عليهما بالإعدام في 5 إبريل/نيسان1951، ويُنفّذ الحكم في 19 يونيو/حزيران 1953). لكنّ "المتدرّب" معني فقط بالعلاقة التي تنشأ بين محامٍ داهية ووصولي ومُخادع، وشاب حالمٍ بشهرة ومال وسطوة وحضور فاعل في المشهد العام.
اللحظات الأولى، التي يلتقطها علي عباسي (سيناريو غبريال شيرمان) "موحياً" برغبة ما للمحامي في الشاب (رغبة جسدية جنسية، فالمحامي مثليّ الجنس)، تؤسّس لعلاقة تقول، باختصار شديد، إنّ من يخلق الوحش في ذات فردٍ سيدفع لاحقاً ثمناً باهظاً، والفرد نفسه، بل الوحش الذي فيه، سيُرغِم صانعَه على دفع الثمن. اعتبار "المتدرّب" فيلماً عن الشاب دونالد ترامب، في فترات وحالات مختلفة (بداية تأسيس إمبراطوريته العقارية، علاقاته بأفراد عائلته، خاصة الأب ودونالد يكرهه، زواجه من عارضة الأزياء التشيكية إيفانا زلْنيتْشكوفا، إلخ)، صائبٌ وواضح. لكنّ روي كُون سيكون فعلياً "البطل" الحقيقي لفيلمٍ يختار زمناً مُحدّداً (سبعينيات القرن الـ20)، وهذا حسنٌ وجميل في أفلام السِيَر الحياتية ـ الذاتية، ليروي كيفية صُنع وحشٍ، من دون التغاضي عن أنّ في ترامب الشاب حينها ما يُسهِّل هذا الصُّنع.
كُون (جيريمي سترونغ) يدعو ترامب الشاب (سيباستيان ستان) إلى طاولته، للمرّة الأولى، في حانة فاخرة، وترامب الشاب سيُعجب به كثيراً، وسيتعلّم منه كيف أنّ الانحطاط، الأخلاقي أساساً، أداة سيطرة، ودافع إلى تحقيق المبتغى، وإنْ على حساب آخرين وأخريات، بل على حسابهم وحسابهنّ. ما يقوله المحامي للشاب، في بدايات التأسيس، قذراً ومنافياً لأي قيمة أخلاقية وبشرية وعاطفية. والشاب مولع بهذا كلّه، إلى حدّ أنّه لن يتردّد عن الاحتيال (بل محاولة الاحتيال) على والده، الذي ستُعطّله الأمّ في اللحظة المناسبة. لن يتردّد عن عدم الاهتمام بشقيقه الكحوليّ، الذي "يموت" بعد وقتٍ قليل. لن يتردّد عن اغتصاب امرأته، بعد أنْ يروي لكُون أنّه غير قادر على احتمالها، بعد جهدٍ يبذله لتوافق على الزواج به. لن يتردّد عن تحطيمٍ نفسي ومعنوي لصانعه، الذي يُصاب بمرض الإيدز، مع أنّه سيُخفي هذا كلّياً عن محيطين ومحيطات به.
رغم هذا، يحضر روي كُون كثيراً، في مفاصل جوهرية في حياة دونالد ترامب، وفي "المتدرّب" أيضاً. وحضوره طاغٍ، في قمّة سطوته، كما في انهياره في "وادي الظلمات"، بعد إصابته بالمرض، وبدء رحلة الموت، الصعبة والقاسية والمخيفة. رحلة كهذه تجعل روي كُون يُدرك أنّ "التخلّي" وحشٌ يُشبه الوحش الذي يُسمّى دونالد ترامب. كأنّ "المتدرّب" سيرة روي كُون أيضاً، لا سيرة دونالد ترامب الشاب فقط. وهذا غير عابرٍ.
"المتدرّب"، المعروض دولياً للمرّة الأولى في المسابقة الرئيسية للدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، تكثيفٌ لحكاية تبدو "أميركا" أقدر المواقع، الجغرافية والثقافية والتربوية والسلوكية والاجتماعية، على صُنعها. فيلمٌ يختلف عن اشتغال علي عباسي سابقاً، في الإيقاع الدرامي والسرد الحكائي وإدارة الممثلين/الممثلات، كما في ترجمة قصصٍ واقعية/حقيقية إلى أفلامٍ مشغولة بدقّة صائغٍ. "حدّ (ترجمة حرفية للعنوان الأصلي: Gräns)"، أو "حدود" (بحسب العنوان الإنكليزي الدولي)، موغلّ في غرائبية الذات البشرية، وتحوّلاتها الجسدية والروحية والمعنوية والفكرية. فيلمٌ (2018) منبثقٌ من ثقافة وتربية وتفكير اسكندنافيّ، لن تحضر كلّها في "عنكبوت مقدّس" (2022)، المرتكز على قصة حقيقية، تحصل في "مشهد" (مدينة إيرانية مقدّسة) عامي 2000 و2001: رجلٌ، يُعرف لاحقاً باسم "العنكبوت"، يقتل 16 عاهرة، لكنّ الفيلم يفضح شيئاً من تناقضات مجتمع محافظ، وسطوة ذكورية، وعلاقات مخادعة.
لعلي عباسي أعمالٌ قليلة، سينمائية وتلفزيونية. "المتدرّب" تجربة مغايرة تماماً، تعتمد أسلوباً أميركياً في سرد فصولٍ من سيرة حياة شخصية عامة، بعمقٍ درامي يُحلّل نفوساً وأنماط عيشٍ وتفكير، بلغة سينمائية تمتلك إيقاعاً حيوياً، وأداءً رائعاً (خاصة جيريمي سترونغ، أحد أبرز الممثلين الرائعين في السلسلة التلفزيونية Succession المنجزة بين عامي 2018 و2023)، وتوليفاً (الدنماركيان أوليفي بوغي كاوتي وأوليفيا نيرغارد ـ هولم).
فيلمٌ يُروَّج له بأنّه مرآة فاضحة لدونالد ترامب الشاب، فإذا به يكون مرآة فاضحة لنمط تفكير أميركي استعلائي ولا أخلاقي ووحشيّ.