المتحف البريطاني ينهي علاقته بشركة البترول: لأولئك الذين كافحوا من أجل هذه اللحظة

24 يوليو 2023
من احتجاج سابق يطالب المتحف بوقف تعاونه مع شركة النفط (Getty)
+ الخط -

لطالما كانت العلاقة بين المؤسسات الفنية والشركات الرأسمالية موضوعاً للنقاش والتدقيق في دوائر الفنون. تقدم الشركات الدعم المالي للمعارض والبرامج الثقافية، غير أن هذا الدعم يثير أيضاً الكثير من المخاوف بشأن تضارب المصالح المحتمل، والتنازلات عن النزاهة الفنية، وتأثير أجندات الشركات على التعبير الفني.
في هذا الإطار وفي خطوة مفاجئة حظيت مؤخراً باهتمام واسع النطاق، أنهى المتحف البريطاني صفقة الرعاية طويلة الأمد مع شركة البترول البريطانية الشهيرة British Petroleum بعد شراكة امتدت 27 عاماً. أعلن المتحف أخيراً أنه لن يتلقى بعد الآن تمويلاً من هذه الشركة، سواء للمعارض أو أي أنشطة أخرى خاصة بالمتحف.
بهذا القرار يُسدَل ستار النهاية على واحدة من أبرز عمليات الرعاية المؤسسية وأكثرها إثارة للجدل، ما يعد انتصاراً لناشطي المناخ الذين كافحوا من أجل هذه اللحظة. ولا شك في أن إنهاء هذا الارتباط بين المتحف وشركة البترول البريطانية يحمل آثاراً عميقة على تقاطع الفن والثقافة والنشاط البيئي مستقبلاً. 
ما يزيد من أهمية هذه الخطوة وتأثيرها أنها تمثل انسحاباً شبه كامل لعملاق الوقود الأحفوري من مجتمع الفنون في بريطانيا. يأتي قرار فك الارتباط بين المتحف والشركة الشهيرة في أعقاب تحركات مماثلة من قبل مؤسسات ثقافية بارزة أخرى. في عام 2019 قطع كل من معرض الصور الوطني والمعارض الوطنية في اسكتلندا العلاقات مع الشركة نفسها، في حين قرر تيت غاليري إنهاء صفقة رعايته معها في عام 2016. هذا إلى جانب عدد آخر من المؤسسات الفنية العريقة، كفرقة البالية الاسكتلندية، ودار الأوبرا في لندن اللتين قطعتا علاقتهما تماماً بشركة البترول قبل سنوات.
خلال العقود الثلاثة الماضية ساعد الدعم المالي لشركة النفط والغاز في تمويل العديد من المعارض والأنشطة المهمة التي نظمها المتحف البريطاني، وهو ما اعتبره الناشطون البيئيون تقويضاً لمصداقية هذه المؤسسة الفنية العريقة. أثارت هذه العلاقة العديد من الانتقادات الموجهة إلى المتحف ودوره في مساندة الممارسات المُضرة بالبيئة، حتى إنها أصبحت نقطة محورية للاحتجاجات البيئية خلال الآونة الأخيرة. جادل الناشطون بأن صفقة الرعاية كانت أشبه بتنظيف السمعة وغسيل الأموال عن طريق الفن، أو ما يطلق عليه Artwash، إذ استخدمت شركة البترول هذه المؤسسات الثقافية لتعزيز مكانتها وتحسين سمعتها وتحويل الانتباه عن تأثيرها البيئي المدمر. 
وقد عبّر ناشطو المناخ والبيئة عن رفضهم هذه الشراكة بين المتحف وشركة البترول بطرق مختلفة، اتخذ بعضها أحياناً أشكالاً دراماتيكية. فألصق الناشطون أيديهم بأطر اللوحات، وألقوا بعلب الحساء عليها، كما غطوا أنفسهم بمواد لزجة تشبه النفط، ونظموا مؤتمرات ووقفات احتجاجية داخل المتحف. ولعلّ الحوادث الأبرز في هذا الإطار حصلت خلال العامَين الماضيين، فألقت ناشطتان حساء على لوحة "دوار الشمس" للفنان فينسينت فان غوغ بالمتحف الوطني في لندن في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وفي الشهر نفسه رمى ناشطان في مجال المناخ بطاطا مهروسة على إحدى لوحات الرسام الفرنسي كلود مونيه في متحف بألمانيا، ثمّ رش ناشطان آخران سائلاً لزجاً على علبة زجاجية تغلف مومياء طبق الأصل في المتحف المصري في برشلونة في نوفمبر/ تشرين الثاني.
غير أن هذه المطالبات والاحتجاجات لم تكن تلقى آذاناً صاغية، بل كان يُنظر إليها أحياناً باستهجان أو عدم اكتراث.
خلال الأعوام القليلة الماضية فقط تغيرت المشاعر العامة وتنامت المخاوف بشأن تغير المناخ بفعل الانعكاسات الكارثية التي بدأت تتكشف بالفعل، ما ساهم في جعل الأزمة أكثر وضوحاً. ولا شك في أن هذه التحولات المناخية المتسارعة إلى جانب النشاط المستمر لناشطي المناخ، مثّل ضغطاً متزايداً على المتحف البريطاني وغيره من المتاحف الأخرى لإعادة تقييم علاقتهم مع شركة النفط الأحفوري الشهيرة.

المتاحف ليست مجرد مساحات لعرض الأعمال، إذ يُنظر إليها كخزائن للتاريخ ومنصات للحوار، لذا فهي مؤهلة للدفع نحو مزيد من الاهتمام بقضية التغير المناخي. من هنا تأتي أهمية هذه الخطوة التي أقدم عليها المتحف البريطاني، فهي تمثل انعطافة مهمة لبلورة أسس الشراكة والتعاون بين المؤسسات الفنية والشركات الكبرى، وإعادة تقييم دور هذه المؤسسات المعنية بالفن في تشكيل مستقبل مستدام للبشرية. من شأن هذا القرار الأخير الذي اتخذه المتحف البريطاني زيادة الضغوط على المؤسسات الفنية الأخرى في جميع أنحاء العالم لمراجعة مصادر تمويلها ودعم المعايير الأخلاقية المتوافقة مع الحفاظ على البيئة.
لا يقتصر الأمر على شركات البترول فقط، إذ تواجه المؤسسات الفنية منذ سنوات ضغوطاً متزايدة وانتقادات كبيرة بسبب شراكاتها المختلفة مع مؤسسات صناعية كبرى، كشركات التبغ والسيارات والتعدين، وحتى شركات التقنية والملابس بسبب الاستغلال السيئ للعمالة في الدول الفقيرة.
ويمثل قرار المتحف البريطاني بإنهاء صفقة الرعاية الطويلة الأمد مع شركة البترول البريطانية لحظة فاصلة لمجتمع الفنون، إذ يرمز إلى تحول أوسع داخل هذا المجتمع، حيث تزداد الدعوة إلى المسؤولية الأخلاقية والبيئية لهذه المؤسسات بصوت أعلى وأكثر إلحاحاً. ومن المهم أيضاً أن هذه التوجهات والسياسات الجديدة التي تتخذها المؤسسات الفنية الكبرى تتحدى الأصوات المطالبة بعزل الفن عن الاهتمامات السياسية والبيئية والأخلاقية، وتؤكد بدلاً من ذلك أن التعبير الفني لا يجب أن ينفصل عن القضايا الملحة في عصرنا.

المساهمون