المايسترو سيجي أوزاوا... سادن باب الأمل

18 فبراير 2024
من عرض في باريس عام 1981 (مارك بولكا/Getty)
+ الخط -

رحل، أخيراً، قائد الأوركسترا الياباني، المايسترو سيجي أوزاوا (Seiji Ozawa) عن 88 عاماً، مُخلّفاً وراءه إرثاً فنيّاً قيّماً وسمعة مهنيّة طيّبة في دنيا الموسيقى الكلاسيكية الغربية، إضافةً إلى مدرسة موسيقية عليا تحمل اسمه في جنيف بسويسرا.

لعل أكثر ما يرد ذكره عند نعيه، أن المايسترو سيجي أوزاوا الأوّل ربما ذو الأصول الشرق آسيوية من بين الذين حققوا شهرة موسيقية يمكن وصفها بالعالمية، أي أن حضوره فاق حدود البلد الذي وُلد ونشأ فيه، سواءً بشخصه على مسارح العالم الكبرى، أو في وسائط إعلام الدول المُنتجة للثقافة والفنون خلال النصف الثاني من القرن الماضي في أوروبا الغربية والشرقية، وأميركا الشمالية.
 
في أميركا الشمالية، خطا المايسترو سيجي أوزاوا خُطاه الأُولى، إثر فوزه سنة 1959 بجائزة مسابقة دولية لقادة الفرق الأوركسترالية جرت في مدينة بيزانسون الفرنسية، دعاه قائد أوركسترا مدينة بوسطن السيمفونية، تشارلز مونش، إلى التتلمذ على يديه. لاحقاً، اتخذه قائد أوركسترا نيويورك الفيلهارمونية، ليونارد بيرنشتاين، أول الستينيات، طالباً له ومساعداً. على ضوء ذلك، انطلق بثقة وثبات في المسيرة المهنية كقائد أوركسترا من الطراز الرفيع، ليترأس عدة مهرجانات موسيقية موسمية في ولاية إيلينوي شمال وسط البلاد حتى آخر حياته.

إن دلّ الاحتفاء بإرث المايسترو سيجي أوزاوا على شيء، بصفته الأول من أصل شرق آسيوي، إنما يدل على واقع الحصة التمثيلية الثقافية البارزة التي حظيت بها المواهب الموسيقية الشرق آسيوية، بصورة شبه استثنائية ضمن المشهد الموسيقي الكلاسيكي الغربي، الذي بقي حتى منتصف القرن الماضي حكراً على الأوروبيين والأميركيين الشماليين من ذوي البشرة البيضاء والهوية الثقافية اليهومسيحية. إذ أعقبت نجاح أوزاوا سلسلة نجاحات، سواءً من خلال ظواهر فردية، كعازف التشيلو الصيني يويو ما، وعازف البيانو لانغ لانغ، أو تشكيلات جماعية كرباعي طوكيو الوتري الذي تأسس آخر الستينيات، وتعاقب على عضويته عازفون يابانيون وغربيون، جلّهم من كندا.

بالنسبة إلى التشكيلات الأكبر حجماً، فإن الحضور الآسيوي أصبح بمثابة التقليد الراسخ. بحسب مقالة في صحيفة ذا نيويورك تايمز، نُشرت قبل ثلاثة أعوام، نقلاً عن "جامعة الفرق الموسيقية الأميركية"؛ فإن متوسط نسبة 9% من عازفي أي أوركسترا في الولايات المتحدة هم من الشرق آسيويّين أو ذوي الأصول الآسيوية. تنخفض النسبة إلى الأقل من نصف على الجهة المقابلة من الأطلسي، إذ لم تزد عن 4% من مجمل أعضاء أوركسترا لندن السيمفونية، وهي الأفضل من بين الأوركسترات حول العالم.

أما في الجامعات والمعاهد الموسيقية في الغرب، فإن نسبة الطلبة الوافدين من دول كالصين وكوريا الجنوبية واليابان، فتعد الأكبر والأكثر تميزاً كماً ونوعاً، علاوة على كونها بفضل قدراتهم المالية، بحكم أن دولهم باتت دُور قوة صناعية كبرى، تُشكل مورداً مالياً أساسيّاً للمؤسسات التعليمية المستضيفة، التي ما انفكت تعاني شح الموارد وتقلّصا مُضطردا لمصادر التمويل نتيجة لترشيد الإنفاق على الفكر والفن.

ثمة عوامل بنيويّة تخص الثقافة الشرق آسيوية قد جعلت من الموسيقى الكلاسيكية الغربية بالنسبة إلى المنحدرين منها مجالاً للتفوّق والتألّق. أولها اللغة، إذ تُعدّ شجرة لغات الشرق الأقصى ذات تركيب صوتي موسيقي صرف، أي أن معاني المفردات تتغيّر بتبدل النغمة والنبرة التي تُنطق وفقها.

في سنة 2004، توصّل باحثون من جامعة كاليفورنيا، إلى رابط مُثير قد يجمع بين اكتساب الصينية (الماندرين) كلغةٍ أم وبين تطوير مقدرة طبيعية على تمييز النغمات الموسيقية بمجرد سماعها عبر الأذن، أي ما يُعرف بمصطلح "الأذن المطلقة" (Perfect Pitch) وتلك ملكة من الصعب اكتسابها، إن حاز عليها الموسيقي، فإن من شأنها أن تُسرّع من سيرورة تطوّره التقني والفني وتُعزز من فرص نجاحه وتفوّقه على زملائه.

سمة أخرى باتت مصدر تنميط ثقافي لا يزال سائداً لدى أوساط الموسيقى الكلاسيكية الغربية، ألا وهي المُثابرة والجلد المقترن بالميل إلى العناية الفائقة بالتفاصيل. إذ عادة ما يُشار إلى الموسيقيين من شرق آسيا على أنهم يواظبون على ساعات طويلة مُضنية من التدريب اليومي على آلاتهم، وعليه يبلغون في صقلِ مهارتهم التقنية مستويات يتفوّقون بها على نظرائهم الموسيقيين من ذوي الأصول الأوروبية. قد يستند ذلك الميل إلى تقاليد موروثة عتيقة من حرف وصناعات، اشتهر بها أهل شرق آسيا، تقوم على معايير مهنية فائقة في الدقّة والإتقان والجودة والكفاءة والبراعة، كالطباعة والمصنوعات الخزفية وحتى تصميم البيوت والحدائق.

تتميّز الذهنية الآسيوية أيضاً بمقاربتها الموسيقى الغربية الكلاسيكية بعيداً عن الثنائية السائدة في الشرق الأوسط والغرب والقائمة على فكرة الروح مقابل المادة، والأهم من ذلك، الآخر مُقابل النحن. إذ لا يرى الفكر في الشرق الأقصى ما يفصل المهارة التقنية والعمل الدؤوب عن الإلهام الفني والإبداع الجمالي، وإنما يتداخل الكلّ ضمن رؤية موحّدة للوجود وللفعل الإنساني.

في السياق نفسه، لا تتخذ الثقافة الشرق آسيوية موقف المواجهة أو المفاضلة إزاء "نظيرتها" الغربية، كما هي الحال لدى شعوب الشرق الأدنى المتاخم لحدود الغرب، وبالأخص خلال فترة ما بعد الاستعمار.

وعليه، يبدو أقصى الشرق أكثر انفتاحاً وبراغماتية إزاء استلهام الحداثة العالمية، التي قُدّر للغرب أن يكون رائدها خلال القرون الثلاثة الماضية، وذلك من دون أن يفقد أيا من العزّة الوطنية لديه أو أن يُشكّل ذلك تهديداً لارتباطه بهويّته وموروثه المحلّي.

لذا، يغلب الظن عند أصحاب النظرة التنميطية التعميمية الاستعلائية إزاء الموسيقيين الشرق آسيويين، على أنهم مُقلّدون مُتقنون غير متفردين ولا مُبدعين في مقاربتهم للأعمال الموسيقية الكلاسيكية الغربية، لا يسعون إلى شرقنتها بإقحام ذواتهم فيها، وبالتالي استلابها وإخراجها من إطارها الثقافي الأوروبي الغربي. وعليه، يؤتمنون على مزاولتها، ولهم أن ينعموا بحصة تمثيلية ضمن مؤسساتها.

في حين أن الموسيقي القادم من اليابان أو الصين أو كوريا الجنوبية، لا تعنيه في الواقع تلك المقابلة الثقافية ولا يهمه ذلك السجال الهويّاتي، أقلًه إلى الآن. إنما جلّ ما يعنيه هو التعلم والتقدّم والتنمية الذاتية والمجتمعية، عبر سبر واستيعاب إنجازات الآخرين، استثماراً لمخرجاتها في العمل على إبداع مستقبلٍ ما فتئ يدنو ويقترب، يغدو فيه الشرق الأقصى مُنتجاً للثقافة بكلّيتها الروحية والمادية.

أما أهمية شخصية فنية بمقام المايسترو سيجي أوزاوا إزاء تلك الصيرورة الحضارية، فتكمن في أنه قد منح القدوة للأجيال اللاحقة، مُثبتاً لمن سيأتي من بعده، أنه بالإمكان انتزاع مكانة عالمية كموسيقي من قارة "نائية" في ميدان موسيقي متأصل في البيئة الثقافية الأوروبية. بهذا، قد فتح أوزاوا أمام أبناء جلدته أهمّ الأبواب، ألا وهو باب الأمل، زارعاً في قلوبهم الثقة بالإمكانية. وتلك هي المدرسة العليا التي ستخلّد اسمه حقاً.

المساهمون