يبدو أن التجسيد الأمثل لمفهوم "استمرار العمل الفني ضمن الزمن"، يحصل على يد أشخاص لا ينتمون إلى المؤسسة الفنيّة. ففي كل فترة وأخرى، يتدخل أحدهم، شخصية مجهولة عادة، أو هامشية، ويُجري تعديلاً أو تحويراً على عمل فنيّ ما، بالصورة التي يراها مناسبة، أو تلائم ذوقه، لتشتعل الصحف بالأخبار وصور "قبل وبعد"، وتمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بالسخريّة. ويتفق الجميع في أن هؤلاء الذين مسّوا قداسة الفن، مُخربين، أو لا يمتلكون قدرة على التذوق الجمالي إلى حد التدخل بأنفسهم لـ"تشويه" لوحة ما، قيمتها قد لا تقدَّر بثمن، أو على الأقل تبلغ عدة ملايين.
لا تراهن الأشكال الكلاسيكية من الفن على تدخل المشاهد. عليه أن يتلقى فقط، بعكس الأشكال الأخرى الأكثر "تفاعليّة" إن صحّ التعبير، كفن الشارع وفن الأداء والفنون الرقمية التي قد يتدخل "أي أحد" في تكوينها النهائي، لكونها بالأصل عتبات نحو أعمال فنيّة غير منتهية بعد، ولا توجد لحظة ثابتة لانتهائها، بعكس "أيقونة يسوع" في إسبانيا مثلاً التي قامت امرأة بتشويهها ورسم وجه جديد عليها، مُخربةً عملاً عمره مئات السنين، ما أكسب اللوحة والدير الذي يحويها والقرية المنسيّة شهرةً لم تشهدها من قبل.
انضمّ إلى قائمة "المخربين"، أخيراً، الروسي ألكسندر دروزوف، ذو الـ 63 عاماً، الحارس في "مركز بوريس يلتسن"، والجندي المتقاعد الذي شارك في حرب الشيشان، وتعرض لعدد من الإصابات، والذي، أيضاً، بالرغم من كل محاولات الصحف دفعنا إلى التعاطف معه، قرر بسبب "شعوره بالضجر" أن يضيف عينين إلى لوحة آنا ليبورسكايا، التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي. عمل فني يبلغ ثمنه نحو مليون دولار، وإصلاحه سيكلف نحو ثلاثة آلاف دولار.
اللافت للنظر في الخبر، ليس رد المتحف الذي صرّح بأن ما حصل "حماقة صرفة"، بل الحديث دوماً عن "القيمة المالية" للوحة. إن عبارات من قبيل أصالة العمل الفني، أو عدم القدرة على إنتاجه، أو تهديد تاريخه، كلها لا تذكر. التركيز دوماً على "المال"، وهو ما يكشف بدقة معنى الفن في عالمنا المعاصر؛ هو نوع من أنواع الضمانات الماليّة، استثمار لا بد من الحفاظ عليه وعدم مسه، وإلا فقد قيمته المالية، لا قيمته الفنيّة.
يبرر الحارس، لاحقاً، أن ما حصل مجرد سوء فهم؛ إذ أخبره بعض المراهقين أن هذه اللوحة من عملهم، ونسوا وضع العيون، وهو يعمل في المتحف، فعليه مساعدتهم ورسم العيون الناقصة، وهذا ملخص ما جرى حسب قوله. هنا نحن أمام تبريرين، كل منهما يهدد تعاملنا مع العمل الفني؛ الأول، هو الضجر، فاللوحات لم تعجب الحارس حسب قوله، لذا مارس حقّاً حُرم منه متلقو الفن التشكيلي، ألا وهو تعديل ما لا يعجبهم والسخرية منه، أو محاولة جعله أكثر إمتاعاً.
هذا الحق كان يمتلكه جمهور المسرح عبر الصراخ والتصفير والتهكم على الممثلين، وما زال يحافظ عليه جمهور كرة القدم، القادر على مقاطعة المباراة وإظهار عدم إعجابه باللعب أمامه، هو جمهور يعبّر عن ضجره وخيبة أمله في أثناء لحظة اللعب - المشاهدة، من دون أن يُتَّهَم بالتخريب. لكنّ ما قام به الحارس الروسي، هو استعادة حقه بالمتعة، وتقديم رأيه ومداخلته بما يشاهد، ذاك الذي حرمتنا منه النخب الفنيّة، وصادره نقاد الفن. والتبرير الثاني أنه لم يعلم قيمة هذه اللوحة، وظنها لمراهقين تمكنوا من خداعه حد تخريبها.
هنا أيضاً يظهر سؤال عن قدرة الفن على التأثير وجدوى الهالة المحيطة به، أي لم عجز شخص بعمر الـ 63 عاماً، ويعمل في ما يشبه المتحف، وأمامه لوحة معلقة حولها إطار مكتوب بجانبها ممنوع اللمس، من اكتشاف أنها عمل فنيّ "عظيم"، يبلغ ثمنه نحو مليون دولار.. كم من العلامات المحيطة بالعمل الفني نحتاج كي يتمكن شخص ما من معرفة قيمة ما ينظر إليه؟ هذا إن سلمنا أن اللوحة ذاتها لا تكفي.
يبدو التخريب عبر خدعة المراهقين سخرية عميقة من "الفن"، إذ لم تثر اللوحة أي حسّ بالرهبة داخل الحارس، ولم تدفعه إلى التساؤل، بل رآها كـ"رسومات" أنتجها مراهقون، ما يعني أن قيمة الفن خارجيّة، نسبغها عليه نحن، أما في جوهره، فهو مجرد خربشة، لا يحوي من الإتقان ما يدفعنا إلى أن نقول: "لا، هذه جميلة، لا يجوز مسّها".