في خضمّ المنافسة الشديدة التي باتت تفرضها الصُوَر على تحوّلات الوسائط البصريّة، يجد التلفزيون الرسميّ المغربي نفسه مدعوّاً للمُساهمة في تنشيط الحياة الدرامية في المغرب. ذلك أنّ البرامج بدأت تعثر لنفسها على لغةٍ جديدة أكثر التحاماً بالواقع، من خلال برامج كوميدية ومسلسلات وأفلام. القاسم الجمالي المُشترك بينها مُرتبطٌ بتحوّلات الصّورة وأنماطها. إذْ لا يكاد المُشاهد يعثر على عمل تلفزيونيّ واحدٍ، لا تتوفّر فيه حداثة الصورة. وإذا كانت هذه الأخيرة تُشكّل تيجاناً قوياً للعمل الدراميّ، فإنّ هشاشة التأليف وانعدام الخيال وهشاشة الأداء تجعل هذه الأعمال ساذجة، وغير قادرة على الاشتباك مع مُتخيّل الواقع.
النصّ الدراميّ هو الذي يقود الصورة إلى البحث عن لغةٍ بصريّة مُتفرّدة، تُضمر أكثر ممّا تُظهر، لكونها تُشكّل عالماً من الرموز التي يستحيل فهم آلياتها ومعانيها، بعيداً عن متانة النصّ وجودته وإقامةٍ تمثّل بصريّ دقيقٍ له، بما يجعل الصورة والنصّ يتماهيان معاً، بطريقة يُمثّلان جوهر العمل الفنّي، بدل أنْ يكونا نشازاً، فكلّ عنصرٍ يُعبّر ويعزف بشكلٍ مُنفردٍ، وهذا الأمر يُساهم ضمنياً في ضياع المعنى، بعدما يُصبح العمل الدراميّ مُشتّتاً وغير قادرٍ على فهم نفسه أوّلاً، فبالأحرى مُشاهد غريب ليست له قدرة للتعرّف إلى ملامح أولى للعمل الدراميّ.
لكن عموماً، فقد استطاع هذا الوسيط البصريّ، مقارنة بالثمانينيات والتسعينيات، أنْ يغدو مُؤثّراً وله سُلطة دائمة على المُشاهد، بحكم ما غدا يلعبه من دورٍ فعّالٍ في سيرة المُشاهد اليوم وعدد المُشاهدات العالية التي بات يحرزها من مُسلسلاتٍ وبرامج كوميدية، لا سيما في شهر رمضان، حين يعتبر العمل الدراميّ سيّد اللحظة. هذا وتُحقّق المسلسلات الدرامية مكانة مميّزة داخل التلفزيون، مقارنة بالمسلسلات الكوميدية الهزلية المُفتعلة غير القادرة على تجديد نفسها والتماهي مع مفهوم "السخرية" بما عرفه من تحوّلات وجوديّة. فالمَشاهد التي كانت تُضحك الناس في التسعينيات لم تعُد كذلك الآن، لكون الواقع تغيّر اليوم. وبالتالي، من الضروري على السيناريست والمُخرج أنْ يستوعبا هذا التحوّل الأنطولوجي في بنية النصّ الهزلي، حتّى لا يكون هناك أيّ تكرارٍ أو تنميط على مُستوى النكت والمَشاهد التي تتّخذ من الضحك والسخرية ملاذاً لها.
يبقى العامل الهشّ في هذا الوسيط هو كونه يضع مثل باقي التلفزيونات في العالم العربي شروطاً تقليدية نُلخّص مُجملها في مفهوم رقابةٍ يجعله أشبه بشرطة الأخلاق، مع أنّ البرنامج الكوميدية يفترض حريّة أكثر على مُستوى الوصف والحكي والتخيّل. هكذا يُصاب النصّ بنوعٍ من الحجز أو الحجر القاهر لأفكاره وصُوَره ومَشاهده التي سرعان ما يتمّ حذفها، حتّى يتماشى الدراميّ مع ضوابط الجهاز البصريّ، وكأنّنا أمام فولكلور بصريّ ينبغي اتباعه والمُحافظة على أطلاله وآثاره.
وأجزم أنّ سياسة المنع جعلت الكثير من الأسماء المغربيّة تُحلّق بأعمالها الفنّية بعيداً عن التلفزيون، وذلك من خلال منصّات ووسائل بصريّة أخرى تُتيح حريّة أكبر للعمل الفنّي، وتجعله قادراً على التأثير في المُشاهد وواقعه. فهذه الحريّة تتبدّى واضحة وبشكلٍ علنيّ في أعمال الممثل الكوميدي المغربيّ محمّد باسو (1985) الحاصل على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي التي اخترقت حدود التلفزيون وأصبحت تستوطن الصفحة الرسميّة له موقع يوتيوب، من خلال عمله الأوّل "ناطق غير رسميّ" ثم سلسلته الكوميدية الثانية "سطوف وماري" (2022) الذي هو بصدد إطلاقه قريباً.
يتوفّر باسو على جميع المُقوّمات الفنّية التي تجعله اليوم في طليعة الممثلين الكوميديين المغاربة الذين يحظون بشعبيّة كبيرة داخل المجتمع. فمُنذ فوزه بجائزة اكتشاف المواهب "كوميديا" عام 2009، تنزّل الفنّان منزلة قويّة في وجدان المغاربة وغدا من المُحبّبين إليه، لكونه فنّاناً مُكافحاً ومُثقّفاً يعمل على التفكير في ما يُمكن تقديمه للكوميديا، بدل أن يجعل من جسده أو صوته مادّة للضحك والسُخرية، لأنّ أغلب اسكيتشاته تتميّز بتنوّع في المواضيع والحالات والمَشاهد المألوفة داخل الاجتماع المغربيّ، يُعيد توليفها بطريقته في السخرية، فهو لا يُقيم كوميدياً في غيبوبة ماضٍ لا يُعوّل عليه فنّياً، وإنّما يعمل على انتشال قصص وحكايات من واقع الشباب المغربي، بما يعرفه من أهوال ومصائب يوميّة.
في "ناطق غير رسميّ" يُكسّر الفنّان من حدّة الشكل الفنّي جرعاتٍ قصيرة وساخرة سياسياً واجتماعياً. هذا النّمط الساخر يستحيل تمريره عبر التلفزيون، لكونه يُقدّم فحصاً كوميدياً للواقع. وبالتالي، فإنّه يجد حريّة أكبر داخل المواقع والمنصّات البديلة التي قادت الممثل صوب مُنعطفٍ فنّي جديدٍ، يُكسّر الوسائط التقليدية ويجعل النصّ يُحلّق داخل آفاقٍ بصريّة، حيث الصورة مُتحرّرة من كلّ ضيّق أو منعٍ يجعلانها تقليدية ومُكرّرة ولا تقول أيّ شيء داخل نمطٍ فنّي يُفترضُ به أنْ يكوناً بوحاً كوميدياً مُكثّفاً يكشف أعطاب المجتمع المعاصر وخيباته المُتكرّرة.