هذه المقالة مترجمة بتصرف، ونشرت أولاً في النسخة الإنكليزية من "العربي الجديد".
في سبتمبر/أيلول الماضي، اعتقل الاحتلال الإسرائيلي رئيس مجلس إدارة مسرح الحرية، بلال السعدي، أثناء مروره على حاجز زعترة العسكري جنوب نابلس، في خطوة شكلت صدمة، رغم أنها مألوفة، في مسرح تطاوله الاعتداءات منذ عقد.
يتركز مسرح الحرية في مخيم جنين للاجئين، ويعتمد الثقافة شكلاً من أشكال المقاومة، ويتحدث علناً عن الاحتلال والاجتياحات الإسرائيلية المستمرة التي أسفرت الأسبوع الماضي عن استشهاد أربعة فلسطينيين وجرح أكثر من 40 في المخيم.
عام 2011، اغتيل المؤسس المشارك والمدير الفني للمسرح، جوليانو مير خميس، على يد مجهول، هو الذي كان يقول إن الانتفاضة الثالثة يجب أن تكون ثقافية. منذ اغتياله، تتواصل الغارات الإسرائيلية على المسرح واعتقال موظفيه، ولم يعد السؤال عما إذا كان أحد العاملين في هذا الفضاء سيُستهدف، بل متى سيحصل ذلك.
هذا الواقع هو ما دفعنا في مسرح الحرية إلى البدء بجمع الشهادات حول الأشكال المتعددة للرقابة الفنية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي.
تاريخ إسرائيل في إسكات الفنانين
من أشهر الاغتيالات تلك التي نفذها الموساد عام 1972 في بيروت، واستهدفت الكاتب غسان كنفاني، وتلك التي استهدفت الرسام ناجي العلي في لندن عام 1987. لكن بحثنا الذي بدأ بتجارب مسرح الحرية الحالية أعادنا إلى عهد الانتداب البريطاني.
الشاعر والمغني والمناضل نوح إبراهيم كانت له كتابات معادية لبريطانيا وللصهيونية. ألف مجموعة أغان حازت شهرة واسعة عام 1938 إلى أن حظرت. في العام التالي، اعتُقل، بعد انتشار هتافه: "خطط لها، سيد ديل" الذي سخر من قائد جيوش الاحتلال. عام 1938، أطلق البريطانيون النار عليه وأردوه قتيلاً، وكان حينها في سن الـ25.
كتب إبراهيم في مذكراته عن "قوانين جديدة" تسجن المثقفين جماعياً باستخدام تهم ملفقة. هذا النظام القانوني الذي ينكر حقوق الإنسان ويستهدف من يرفعون الصوت ما زال معتمداً من قبل إسرائيل حتى يومنا هذا.
هذه المرة الثانية التي يعتقل فيها بلال السعدي، وقد حكم عليه بالسجن الإداري لثلاثة أشهر، وهو إجراء يتخذ من دون تهمة أو محاكمة، ويمكن تجديده مراراً وتكراراً. باعتماد هذه الاستراتيجية، يسجن آلاف الفلسطينيين، وبينهم الراقص لؤي طافش عام 2016. قيل لطافش إن الأدلة ضده يجب أن تبقى سرية لحماية المصدر. اعتقل لأكثر من عام، من دون أن يعرف السبب، غير أن واحداً من المحققين أخبره أن إسرائيل لم تعجبها الخلفيات السياسية في الرقصات التي يصممها.
في أواخر الثمانينيات، اعتقلت إسرائيل الموسيقي والملحن سهيل خوري، لنسخه أشرطة موسيقية. يتذكر قائلاً: "اعتقلوني كأنني إرهابي، وكأن ما بحوزتي سلاح". في ذلك الوقت لم يكن هناك قانون لإدانته، فاستخدمت سلطات الاحتلال قانوناً من الانتداب البريطاني، وأصدرت حكماً بسجنه لمدة 15 شهراً، بتهمة التحريض على العنف والثورة. التهمة نفسها وجهت لإبراهيم قبله بـ50 عاماً، ولدارين طاطور عام 2015، بعد أن كتبت قصيدتها "قاوم يا شعبي قاومهم".
السجن للتعذيب النفسي
صمم نظام السجون لتدمير المعتقلين نفسياً. وعلى الرغم من الحبس الانفرادي والحرمان من النوم وغيرها من التكتيكات، فإن الفنانين وجدوا طرقاً للمقاومة بإبداع؛ تعرض خوري لتعذيب جسدي شديد، لكنه نجا عبر تأليف ألحان موسيقية في رأسه نشرها لاحقاً. رسام الكاريكاتور محمد سبعانة الذي اعتقله الاحتلال إدارياً عام 2013، سرق بجرأة قلماً وورقة لرسم تجارب السجناء، وهرّب الرسوم الكاريكاتورية، وافتتح معرضاً، ونشر كتابه "أبيض وأسود".
وتشمل الأشكال الأخرى من المقاومة إضراب الأسرى عن الطعام الذي انضم إليه محمد أبو سخا من مدرسة السيرك الفلسطيني. لكن الأثر الجسدي للإضراب منعه من الأداء مرة أخرى، وهو يركز حالياً على تدريب الجيل المقبل من الفنانين.
سهيل خوري الذي يدير المعهد الوطني للموسيقى حالياً اعتقل مرة أخرى عام 2020، إلى جانب زوجته رانيا إلياس التي شاركته في تأسيس مركز يبوس الثقافي.
أكد إلياس أن مركز يبوس الثقافي الذي تأسس بعد اتفاقية أوسلو "كان بداية مهمة مستحيلة، لإبقاء القدس، عاصمتنا الفلسطينية، على الخريطة". اشتدت الاعتداءات على المركز بعدما نقلت الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس عام 2018، لتشمل المداهمات والاستجوابات ومصادرة الوثائق والملفات وأجهزة الكمبيوتر.
ربما أكثر ما صدمنا، عندما جمعنا شهادات الفنانين، قصف مركز سعيد المشعل الثقافي عام 2018. أوضح المؤسس المشارك، علي أبو ياسين، أنه كان يستعد لعرض مسرحية في ذلك اليوم، وقال: "فجأة، اتصل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وأمرنا بإلغاء العرض من دون إبداء أي سبب. بعد ساعات قليلة، حولت قنبلة إسرائيلية المبنى المكون من ستة طوابق إلى حفرة". وأضاف: "لا أصدق أن المسرح اختفى بعد 14 عاماً من عملنا فيه، في لحظة، وبتسعة صواريخ".
المقاومة رغم القمع
قبل أقل من شهر، دمرت قرية الفنون والحرف اليدوية، وعام 2009 دمر مسرح الهلال الأحمر ومدرسة غزة للفنون الموسيقية. بعد أيام من استهداف مركز سعيد المشعل الثقافي، نظم الفنانون عروضاً على الأنقاض حيث تعهد علي أبو ياسين: "صنعنا فنانين، وسنبقى فنانين".
لم تفصل الحدود ونقاط التفتيش والجدران الفلسطينيين عن بعضهم البعض فحسب، بل أوقفت العمل المهم للفنانين الذين ينقلون الروايات البديلة إلى الرأي العام العالمي.
ولكن مع تطور التكنولوجيا، تتطور أيضاً أساليب الالتفاف على الرقابة. في مسرح الحرية أطلقنا أخيراً مشروع "في ألف صمت" الذي يستخدم الواقع الافتراضي الذي يمكن الجمهور من مشاهدة العروض باستخدام سماعة رأس في أي مكان في العالم.
ومع ذلك، ولو تمكن الفنانون من السفر، فإن عملهم لا يزال معرضاً لخطر الرقابة. على سبيل المثال، واجه إنتاج مسرح الحرية لعرض "الحصار" احتجاجات صهيونية وهجمات من وسائل الإعلام واتهامات بالترويج للإرهاب. وبينما تدبرنا أمر دحض هذه الادعاءات والقيام بجولة في مسارح حيث بيعت التذاكر بالكامل في جميع أنحاء المملكة المتحدة، ألغيت العروض في نيويورك من قبل المسرح العام.
تعمل المنظمات الثقافية الفلسطينية معاً لتخطي العقبات، ورفضت أخيراً شروط التمويل التي تنص على عدم تسييس عملها. كبد هذا القرار مسرح الحرية 80 في المائة من تمويله، لكن التضامن والقيم الراسخة، التي تشمل دعم المقاطعة، ساعدت في نمو قطاع فني فلسطيني موحد.
بعد عامين من جمع الشهادات التي تسلط الضوء على الاستراتيجية الإسرائيلية في استهداف الفنانين، أسسنا "وعد الثورة"، وهو مشروع تضامن عالمي، يشجع الناس في أنحاء العالم كافة على مشاركة هذه التجارب التي لا تفضح أساليب الرقابة فحسب، بل تحتفي بالطرق العديدة التي يستخدم فيها الفلسطينيون الثقافة للمقاومة.
وبعد اعتقال بلال، أصبحت الدعوة للانضمام إلى محادثة عالمية والضغط على إسرائيل لوقف الهجمات على الفنانين أكثر إلحاحاً.