القديس فرنسيس الأسيزي... سلام مؤقت في لندن

11 يوليو 2023
أحد أكثر الشخصيات التاريخية والدينية حضوراً في الأعمال الفنية (Getty)
+ الخط -

تختلف الروايات التاريخية الغربية حول مضمون اللقاء بين القديس فرنسيس الأسيزي (1181 - 1226) والسلطان الكامل الأيوبي (1180 - 1238) ابن شقيق الناصر صلاح الدين. رغم هذا الاختلاف بين الروايات حول تفاصيل هذا اللقاء وأسبابه، إلا أنها اتفقت جميعاً على روح المودة التي خيمت عليه، ورغبة كلا الطرفين في السلام وحقن الدماء. حدث هذا اللقاء التاريخي عام 1219 ميلادية، بينما كان جيش الحملة الصليبية الخامسة يحاصر مدينة دمياط المصرية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. في هذه الأثناء، تسلل القديس فرنسيس الأسيزي إلى معسكر السلطان الكامل، وطلب لقاءه. تذكر الروايات كيف أكرم السلطان وفادة هذا الزائر، خاصة بعد أن أبدى رفضه لهذه الحرب ورغبته في عقد هدنة وحوار بين كلا الجانبين.

هذا اللقاء التاريخي بين القديس فرنسيس والسلطان الكامل يؤرَخ له اليوم كرمز للحوار بين الأديان ودعوة للتسامح والتعايش بين العقائد المختلفة. كان هذا اللقاء كذلك أحد الأسباب الرئيسية التي عززت المكانة الرمزية للقديس فرنسيس الأسيزي كأحد أكثر الشخصيات الدينية المُلهمة في التاريخ، والذي ينظر إليه اليوم كرمز للتفاني والإخلاص والمحبة.

حياة القديس فرنسيس الأسيزي وسيرته هي محور المعرض الذي يستضيفه حالياً المتحف الوطني في لندن حتى 30 يوليو/ تموز الحالي. يضيء المعرض على السيرة الاستثنائية لهذا القديس، والتزامه وتفانيه البالغ في الدعوة للسلام والمحبة وخدمة الفقراء. يضم المعرض أكثر من أربعين عملاً فنياً تغطي قرابة سبعة قرون، من القرن الثالث عشر وحتى العصر الحديث. تقدم هذه الأعمال تفسيرات متنوعة لهذا الحضور اللافت الذي تتمتع به هذه الشخصية التاريخية، والحاجة الملحّة لاستعادة القيم النبيلة التي تمثلها، خاصة في هذه الأوقات العصيبة التي يعيشها العالم.

خلافاً لهذا الحضور التاريخي والمكانة الدينية التي يتمتع بها القديس فرنسيس الأسيزي، فهو أيضاً أحد أكثر الشخصيات التاريخية والدينية حضوراً في الأعمال الفنية عبر العصور المختلفة. تتوزع هذه الأعمال الفنية التي تناولت سيرة القديس فرنسيس اليوم بين عدد كبير من المتاحف والمؤسسات الفنية حول العالم، غير أن المعرض الذي يستضيفه المتحف الوطني في لندن يتيح لزائريه فرصة نادرة لرؤية هذه الأعمال في مكان واحد لأول مرة. فيما يشبه رحلة عبر الزمن، يمكن للزائرين التطلع إلى اللوحات والآثار والمخطوطات المنتمية إلى العصور الوسطى إلى جانب الأعمال الفنية المعاصرة من اللوحات والتماثيل، وحتى رسوم الكوميكس.

جانب كبير من الأعمال التي يضمها المعرض تمت استعارتها من مؤسسات فنية ومتاحف في أوروبا والولايات المتحدة، إلى جانب عدد من القطع الفنية من مجموعة المتحف الوطني في لندن. بين النماذج الفنية المعروضة، هناك مجموعة نادرة من أعمال الفنانين كارافاجيو وبوتيتشيلي وإلغريكو، وغيرهما من فناني عصر النهضة البارزين. تسلط هذه الأعمال في جانب كبير منها الضوء على حقبة العصور الوسطى وأهم سماتها الفنية، وهي الفترة التي شهدت تنامياً ملحوظاً في استلهام سيرة القديس فرنسيس الأسيزي.

إلى جانب الأعمال الفنية، يضم المعرض أيضاً عدداً من المخطوطات التي تمثل كتابات لبعض المؤرخين ورسائل خاصة لعدد من الشخصيات المعاصرة للقديس فرنسيس. تقدم الأعمال الفنية والمخطوطات المعروضة لمحات مختلفة من حياة القديس فرنسيس، من تعاطفه البالغ مع الفقراء ورحلته الروحية إلى محبته للطبيعة وكراهية العنف، كما تسلط الضوء كذلك على التأثير العميق الذي أحدثه على النسيج الديني والثقافي في عصره.

لا يتوقف هذا التأثير الفني على العصور القديمة فقط، إذ مثلت سيرة القديس فرنسيس مادة خصبة لعدد من الأعمال الفنية المعاصرة أيضاً، والتي تعد شهادة على التأثير الدائم والحضور الذي تتمتع به هذه الشخصية الاستثنائية. بين النماذج الفنية المعاصرة التي يشير إليها المعرض، عدد من سلسلة الكوميكس الشهيرة لشركة مارفل صدر في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. خُصص هذا العدد بالكامل لشخصية القديس فرنسيس الأسيزي، والذي يظهر فيه كواحد من الأبطال الخارقين، ويحمل هذا العدد عنوان "فرنسيس: شقيق الكون".

يسلط المعرض الضوء على أحد الجوانب الأخرى المهمة في سيرة القديس فرانسيس، والمتمثل في علاقته مع الطبيعة؛ إذ نرى عدداً من القطع الفنية التي تجسد العلاقة المتناغمة للقديس فرنسيس مع الطبيعة والحيوانات، ما يعكس إيمانه بالقيمة المتأصلة وقدسية جميع الكائنات الحية. في عصر يتسم بالأزمات البيئية، لا شك أن الرسالة البيئية التي يجسدها هذا الجانب في سيرة القديس فرانسيس الأسيزي، تبدو ذات أهمية متزايدة في الوقت الراهن. هذه العلاقة المميزة بين القديس والطبيعة هي محور العمل التجهيزي الذي يقدمه الفنان البريطاني البارز ريتشارد لونج (1945). العمل الذي يقدمه لونج أُعد خصيصاً لهذا المعرض بتكليف من المتحف ويُعرض في صدارة القاعة الرئيسية، وهو عبارة عن تمثال بالحجم الطبيعي لرجل يقف فارداً ذراعيه كالمتضرع إلى السماء.

المساهمون