القتل من السماء

02 أكتوبر 2024
من آثار الغارة التي اغتال بها الاحتلال أمين عام حزب الله حسن نصر الله (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فضيحة وثائق ويكيليكس وجريمة الحرب الأمريكية: في 2010، كشفت وثائق ويكيليكس عن فيديو يظهر فريق طيران أمريكي يقصف مدنيين بزعم أنهم جماعة مسلحة، مما أكد جريمة الحرب بقتل المدنيين وعدم منحهم حق الاستسلام.

- العدوان الإسرائيلي وتوثيق الجرائم: تُبث صور وتسجيلات لعدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان، حيث تُظهر تدمير البنايات وقتل المدنيين، لكن غياب الأدلة يجعل الجرائم مجرد وثائق تُستخدم في نشرات الأخبار.

- استراتيجية الضاحية والقتل عن بعد: الاحتلال الإسرائيلي يطبق "استراتيجية الضاحية" لتحقيق أكبر ضرر أثناء الاغتيال، حيث يُعتبر المدنيون "أضرار جانبية"، مما يزيد من شحنة الغضب والرغبة في الثأر.

أكبر فضيحة طاولت الجيش الأميركي كانت بسبب وثائق ويكيليكس التي نشرت عام 2010. "الدليل" حينها على جريمة الحرب كان تسجيل فيديو يُظهر فريق طيران أميركيا يقصف ما ادّعى أنهم جماعة مسلحة، ليتبين لاحقاً أنهم مدنيون. الدليل نفسه هو فيديو وراءه أصوات "الجنديين" يضحكان، ويصوبان نحو الأهداف. جريمة الحرب هنا هي قتل المدنيين مع العلم أنهم مدنيون، وعدم منحهم حق الاستسلام. نحن أمام قتل عن بعد لا يميز بين مدني ومقاتل.
اليوم، وبينما تبث هذه الصور والتسجيلات لعدوان الاحتلال الإسرئلي على قطاع غزة وجنوب لبنان، لم تعد جريمة الحرب مثيرة للاهتمام، تحولت إلى أمر ذي قيمة إخبارية، إلى مجرّد دليل على "إبادة الهدف"، علماً أن صور المدنيين القتلى تظهر لاحقاً. لكن ضمن إطار الصورة هذه لا صور لمدنيين. وهذا بالضبط ما ينفي عنها، وفق "القانون الدولي"، صفة جريمة الحرب، فضلاً عن أن إسرائيل، باعترافها وقدرتها الاستخباراتية، تستطيع معرفة عدد المدنيين القتلى حسب ما كشفه تحقيق "ماكينة اغتيال جماعي".
إذن، نحن أمام وثائق عن جرائم تنشر بأساليب للترهيب وتأكيد "البراعة العسكريّة". فيديوهات الثمانية أطنان من القنابل التي اغتالت حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية، وسوّت بالأرض على الأقل ست بنايات، قتلت بالتأكيد مدنيين، على الأقل 300 حسب التقديرات الإسرائيليّة نفسها، وحسب تعبير أحد الأطباء في لبنان؛ فـ"الجثث تبخرت"، أي نحن أمام جريمة حرب متكاملة، لكن لا دليل بلا جثة.
هذا الشكل من الاغتيال الذي يفني جمعاً لا فرداً، كان فضيحة زمن الغزو الأميركيّ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى نظام الأسد وإلقاء البراميل في فوق بنايات وقتل كل من فيها. والآن مع العدوان الإسرائيلي أًصبح خبراً، وثيقة لتطعيم الـReels ونشرات الأخبار، وليس صوتاً للقتلة أو صوتاً للضحايا. إنه مجرد صور حربيّة ترصد "الأهداف" و"إبادتها". ما من مساحة للنقاش في هذا الشكل من القتل الخالي من الاشتباك والاستسلام. هو إبادة الهدف منها ليس فقط التخلص من "الهدف"، بل التأكيد أن كل من حوله، علموا أو لم يعلموا بوجوده بينهم، هم معرضون إلى القتل.
جبناء هم القتلة من وراء الشاشة. لا يحدّقون في أعين ضحاياهم، ولا حتى أجسادهم. هم كمن يلعب، متبّلد الحواس، يقتل "الأهداف" مراراً موجّهاً علامة التصويب من دون أي تفكير. القتل ببال مرتاح لفكرة أن أحداً لن يعرف هويتك. فلا "بطولة" إذن للقاتل الإسرائيليّ. مجرد بيانات وراء بيانات من صور وأرقام، تُترجم دماً وأشلاءً على الواقع. والأهم لا جريمة ولا جريمة حرب، بعد أن طُبّع قتل المدنيين عن بعد.
تفترض أدبيات الحرب أن السيادة على السماء تُترجم بسيادة على الأرض وضبط التحركات عليها، وقتل على الشبهة والهوى. وهنا المفارقة، زمن الاغتيالات التكتيكية ولّى. هناك زمن "عملية دقيقة" حسب التصريحات الإسرائيليّة. الدقة هنا تعني أن الهدف قتل لا شك فيه. المدنيون يُمسون مجرّد "أضرار جانبيّة" لا أثر لهم على الشاشة أمام قائد الدرون أو الطيّار. الدقة إذن هي إصابة الإحداثيات، وليست تصفية هدف بعينه.

انتشر أخيراً أن الاحتلال يطبّق "استراتيجية الضاحية" في إشارة إلى الضاحية الجنوبيّة لبيروت، والتي تفترض تحقيق أكبر ضرر أثناء الاغتيال للقضاء على "الحاضنة الشعبية". هذه الاستراتيجية طُبّقت على غزة، والآن جنوب لبنان، وترى "الحاضنة الشعبيّة" كتلة بشرية لا بد من تفتيتها وتأليبها ضد بعضها بعضاً وضد قياداتها، لكن القتل عن بعد من دون مواجهة يفتت هذه النظرية.

من لا يعرف قاتله سيغضب من "الجميع"، من كل من قتلوه، ونقصد بـ"لا يعرف قاتله"، أي لا يعرف وجهه واسمه ما يزيد من شحنة الغضب والرغبة بالثأر من كلّ ما يطير في السماء.

المساهمون