مع ظهور السلالة المتحورة من فيروس كورونا، الأكثر قدرة على الانتقال بنسبة تصل إلى 70 في المائة، في بريطانيا، انتشرت صور الفيروس، لرصد طبيعة التحويرات البروتينيّة على غلافه، وطبيعة البيئة التي يعيش ضمنها.
لكن المثير للاهتمام في خلفية الصورة كانت "خلايا الدم"، وهنا يعود السؤال الثقافي ــ الطبيّ للظهور، هل الفيروسات كائنات حيّة أم لا؟ الخوض في هذا الأمر خارج عن موضوعنا، لكن الصور التي نراها للفيروس بحالته الميكروبية، تشرح لنا آلية عمله وكيفية التصاقه بالخلايا وانقسامه، وتأثيره على الخلايا المختلفة، وسيناريوهات العدوى المحتملة التي تنقله من حالة "السكون" إلى الفاعلية.
نطرح هذه التساؤلات ونشير إلى الحكايات المحيطة بحياة الفيروس، لنعيد النظر في مفهوم حياتنا نفسه، تلك التي يمثّل هو عدوها الأنطولوجي، فحياتنا كبشر هي الأغلى على الكوكب، إذ قامت الدول ــ نظرياً ــ من أجل الحفاظ عليها وتنظيمها، وتحركت الثقافة لتؤكد لنا فردانية الواحد منا كإنسان ذي قدرات كامنة بانتظار الاكتشاف.
الأهم أن هذه الحياة التي نحافظ عليها تتحرك ضمن سياقات لها أشكال وشروط متنوعة ومختلفة لا نراها لدى الفيروس الذي يبدو معزولاً، لا وصف لبيئة حياته، إذ يتجاوز الحدود السياسيّة ويتحرك خارج السيادة الوطنيّة التي تحاول احتواءه واحتواء المصابين به منعاً لهجومه على حياتنا.
المثير للاهتمام أن الفيروس بشرط "حياته" المجهري، وأسلوب نقل لقاحه الدقيق، كشف بشدة عن هشاشتنا كبشر، لا فقط أمام العنف السياسي بل أيضاً أمام الخطر البيولوجي. والهشاشة هنا أو انعدام القوة تعني إدراكنا لعجزنا وعجز جسدنا ولحمنا عن الوقوف بوجه ما يحصل من موت.
"العدو" الجديد كشف أننا غير مصممين للنجاة إلا في الظروف التي نعيش فيها حالياً، ونقصد اللقاحات والأدوية والأنظمة السياسية والأبحاث العلميّة. هذا العالم المنزوع من السحر هو أيضاً عالم منزوع من شرط الحياة، والعلاقات بيننا نحن إذاً فيروسيّة، فنحاول النجاة لا فقط كجماعة، بل أيضاً كأفراد لا يمكن لهم النجاة الجسديّة خارج الجماعة، بعكس الفيروس الذي نشاهد صورته وحيداً، محاطاً ببروتيناته، منتظراً فريسته أو مضيفه. هنا نعيد النظر في مفهوم الحياة بصورة أدق، فمقارنة أنفسنا بالفيروس تكشف ضعفنا الشديد، خصوصاً أنه ينجو في "الداخل" و"الخارج"، في حين أننا كبشر، ما إن نغادر الرحم، حتى تتزايد احتمالات فنائنا.
وهنا، يأتي الرعب المرتبط بالسلالة المتحورة للفيروس، لأنها قادرة على إصابة صغار السنّ، أولئك الذين شكلت معدلات إصابتهم المنخفضة أملاً من نوع ما بأن المرض لا يستهدفنا كلنا، بل أولئك الأقل حظاً.
وفي العودة إلى هرميّة الحياة، يبدو الحجر الصحي أسلوباً للهرب أكثر منه للوقاية، وهنا يظهر جهاز المناعة بوصفه المحدد الرئيسي لحياتنا وقدرتها على التفوق على الحيوات الأخرى، فهو ما يُراهن عليه للوقوف في وجه الفيروس، بوصفه المكون الداخليّ المتطور دوماً الذي يحتاج لبناء دائم منذ لحظة الولادة. وهنا الاختلاف الجوهري عن الفيروس، فالأخير قادر على النجاة وحيداً من دون تدخل سياسيّ أو طبيّ، أما نحن فنحتاج إلى مناعة القطيع، تلك التي تجعلنا نتربع على أوج هرم الحياة في مواجهة "الأعداء".
فردانية صورة الفيروس هذه تعود إلى بدايات التطور العلمي، والحاجة إلى تحديد العدو بدقة، ومعرفة صورته، وفصله عن أشباهه، وهي أشبه بصور المطلوبين للعدالة، في حين أننا نظهر في الصور كأفراد وجماعات لمواجهته، ما قد يعني أن هذه المواجهة غير عادلة وتميل لصالحنا، وهنا يأتي تأثير الرعب المرتبط بصورة الفيروس؛ هو وحيد وخطر، ولابد من معرفة شكله، بسبب قدرته على التخفي والتنقل، لكن هذه الصورة الفرديّة تفترض أنه من الصعب رؤيته بسبب مهاراته، لا بسبب هشاشتنا نحن وإدراكنا المحدود.