الفنون الشعبية المغربية... وثائق تاريخية بصرية

22 اغسطس 2022
الأغاني والرقصات تُجسّد تعبيراً عن وضعية المواطن البسيط (ستيفان دي ساكوتين/ فرانس برس)
+ الخط -

يوماً بعد يوم، تزداد أهميّة التراث الموسيقيّ الشعبيّ في المغرب، وتتغيّر معه النظرة السطحية التي طالما تعاطت بغطرسةٍ وتعالٍ مع الفنون الشعبيّة، باعتبارها تعبيرات رمزيّة، نشأت وترعرعت خارج المسار التاريخيّ الرسمّي، رغم ما غدت تُمثّله من واجهةٍ فنّية داخل بلدٍ، يبدو كأنّه لا يملك اليوم إلا تاريخه الفنّي وذاكرته الجماليّة. فقد كشفت الوضعية الفنّية المغربيّة أنّ لا سبيل لها إلى الذيوع والشهرة إذا ما ظلّت بعيدة عن ذاكرتها الموسيقيّة المغربيّة المُتوهّجة والغنيّة والمُختلفة بتعدّدها وتباينها من منطقةٍ إلى أخرى. ذلك أن السائح لا يكاد يعثر على ملامح المغرب الفنّية والجماليّة، إلا داخل موسيقاه ورقصاته، لأنّها شكلٌ من أشكال التعبير الرمزيّ، الذي يُضمر في طيّاته عُمق هذه الفنون الشعبيّة والدور الطلائعي الذي ظلّت تلعبه داخل القبائل والدواوير بنسبٍ متفاوتةٍ من التأثير. لكنّها من دون استثناء، تبقى عبارة عن سلوكٍ اجتماعي تمخّض عن حدثٍ تاريخيّ، فالأغاني والرقصات تُجسّد تعبيراً حقيقياً عن وضعيات المواطن البدوي البسيط، الذي هدّه الجوع والعطش وتاه في ربوع الصحراء ينظم الغزل، أو فلاح قاده الفرح بالمطر ومحاصيله الزراعية المُثمرة إلى الرقص على أنغام موسيقى جبليةٍ، تُعيد للجسد رونقه وألقه داخل الفضاء. لكنّ بعضها، كفرقة "عبيدات الرمى"، يظلّ يُعبّر جمالياً عن لحظات الحرب التي تنشب بين القبائل، ويُحوّل قائد الفرقة الغنائية الراقصة إلى مقاومٍ يتزعّم فريقه الغنائي بشكلٍ مُتخيّل.
لكن عموماً، تظلّ هذه التعبيرات الفنّية حاملةً صبغةً وجوديّةً، طالما تُحاكي طبيعة الحياة اليوميّة من مُشاهداتٍ وعاداتٍ وطقوسٍ وسلوكاتٍ، جرى التعامل معها، طيلة قرونٍ، على أساس أنّها تعبيرات رمزيّة، تحمل في باطنها أبعاداً أنثروبولوجية مُرتبطة بالإنسان في علاقته بالذاكرة والفضاء. فقد انتبه المفكّر الراحل عبد الكبير الخطيبي إلى أنّ هذه الفنون الشعبيّة تُمثّل صرحاً جمالياً لا يُمكن نسيانه أو التعامل معه بوصفه هامشاً، لأنّ الموسيقى الشعبيّة بمُختلف رقصاتها تعكس ذلك التعدّد الذي يحبل به المغرب. كما تُبيّن هذه الفنون تلك البراءة الآسرة التي تطبع الفضاء البدوي، بحيث لا يُمكن النّظر إلى فرقةٍ غنائيةٍ وفهم أنثروبولوجية رقصاتها بمنأى عن تاريخها وبيئتها، فهما معاً يتحكّمان في سوسيولوجية الأغنية.


وعلى الرغم من ذلك، تبقى، بشكلٍ أو بآخر، عبارة عن تقليدٍ ومحاكاة لواقعةٍ تاريخيّة، يجرى تحويلها إلى تعبيراتٍ رمزيّة، تُظهر قُدرات الفرد في إبداع أنماطٍ موسيقيّة وأهازيجٍ غنائية وابتكار رقصاتٍ فولكلورية. وذلك بلباس مُزركشٍ يمتح عوالمه الجماليّة على مُستوى اللون من خصوصية المنطقة، فتكون الأغنية أو الرقصة عبارة عن وثيقة تاريخيّة بصريّة حيّة تتنقّل هنا وهناك، لا لتكون امتداداً واقعياً للماضي، وإنّما بحكم المكانة التي يتميّز بها الرقص والغناء في المتخيّل المغربي القديم.
تتميّز الفنون الشعبيّة المغربيّة في كونها تحبل بتناظرٍ بصريّ يمزج سيرة الغناء والرقص، فهما معاً، يُشكّلان تاجاً قوياً للفنّ الشعبي، إذ لا يُمكن تحقيق أيّ مُتعةٍ جماليّة لهذا الفنّ بمنأى عنهما. ولا شكّ أنّ في تزايد اهتمام المؤسّسات الفنّية الرسميّة بهذا اللون الجماليّ ما يُتيح له إمكانية التداول والذيوع والاستمرار، إذ لا تخلو مدينة مغربيّة من مهرجان لمُختلف تعبيرات الفنون الشعبيّة، غير أنّ المهرجان الوطني للفنون الشعبيّة، الذي تشهده مدينة مراكش كلّ سنة، يُعدّ أكبر مهرجانٍ لهذا الفنّ، لا سيما أنّه أوّل مهرجانٍ في المغرب، وله سمعةٌ واسعة الانتشار في وجدان الفرق الغنائية الشعبيّة، التي تسعى جاهدة إلى المُشاركة فيه. 
ففي دورته الأخيرة الـ51، وصل عدد الفرق المشاركة إلى حوالي 700 فرقة غنائية من مُختلف أقاليم المملكة، انطلقت في اليوم الأوّل من ساحة الحارثي مُتّجهة إلى قصر البديع، وفق طابعٍ كرنفالي يُغذّي وجدان ساكنة المدينة ويمنحها بعضاً من الفرح، بعد الألم الذي خيّم على المدينة طيلة فترة الحجر الصحّي، بالنسبة لمدينةٍ تُعرف بكونها سياحية بامتياز، ولا تستطيع التخلّي عن طابعها الفُرجوي بالنسبة للسائح الأجنبي. فقد تنوّعت الفرق الغنائية بين غناوة وأحيدوس وعبيدات الرمى وعيساوة وغيرها من الفرق القادمة من ربوع المغرب، حاملة معها تراثها الموسيقيّ وأحلامها الفُرجويّة. 
وحسب مُعاينتنا اللصيقة بالمهرجان، حظيت الدقّة المراكشية بإقبال كبير من الجمهور، أوّلاً لكونه جزءاً من هذا التراث الموسيقي ويعرف شخصيات الفرق، وثانياً، لما تُحدثه ضربات آلة البندير والكف من لذة في جسد المرء، تدعوه بشكلٍ مُباشرٍ إلى المُشاركة في استخدام اليدين والرقص بجسده. وهي تعبيرات فنّية شهيرة بالمدينة وتتكوّن فرقها من أكثر 10 أفرادٍ يرتدون لباساً موحّداً. 

سينما ودراما
التحديثات الحية

وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ هذه الرقصة تعود إلى زمن السعديين (القرن الـ17) كنوعٍ من الاحتفال العامّ القائم على ذكر أمجاد رجالات المدينة السبعة، وهو ما يُفسّر تكرار هذا الموّال بين فقرة غنائيةٍ وأخرى. أمّا فرقة عبيدات الرمى القادمة من مدينة وادي زم برئاسة مصطفى الزهراني، فقد حظيت باستقبال مُبهجٍ من المُراكشيين، بسبب القوّة الفنّية التي تتميّز بها رقصات عبيدات الرمى بطابعها البدوي، إذ تسعى دوما إلى اختراق خشبات المسرح لأداء بعض الرقصات القريبة من الجمهور للتأثير فيه والدفع به إلى المشاركة في الرقص. 

كما تُعتبر عبيدات الرمى فرقة غنائية راقصة موحّدة على مستوى اللباس، تتكوّن في الغالب من 7 أعضاء، يتزعّمها "مقدم" يعمل على تنظيم رقصاتها، ويُمتّن مقاطعها الغنائية القصيرة في مواضيع تتعلّق بالتغنّي بالمرأة والأرض والوطن والهجرة والعائلة داخل المجتمعات البدوية. ونفس الأمر ينطبق على رقصاتها، حيث تُترجم استعراضاتها الثورة على الاستعمار ولحظات الفرح في الأعراس والحرب والمواسم الفلاحية.

المساهمون