شكّلت الفلسفة بمفهومها العام نواةً أولى لكثير من التخصصات العلمية التي نعرفها اليوم. وكان الفلاسفة القدماء علماء في الوقت نفسه في العديد من المجالات والتخصصات، أمثال أرسطو الذي كان بارعاً في الفلك والكيمياء، وديكارت الذي انتهج الفلسفة في تفسير الهندسة.
وبينما نعتقد غالباً أنّ المشكلات التي يحتار العلماء فيها، يتم حلها عن طريق إجراء المزيد من التجارب، أو مراجعة النظريات العلمية، أو تطوير أساليبَ حسابية أكثر دقة. لكنّ للتحليل الفلسفي دوره المهم في ذلك أيضاً.
عام 1927، قدّم عالم الكيمياء الألماني فريدريش هوند أطروحته حول الوصف الميكانيكي الكمومي للجزيء، والتي جاءت بنظريةٍ جديدة لم تُناقش من قبل، ما أثار ردود فعلٍ متباينة، فبعض العلماء كانوا مع ما قدمه هوند في أطروحته، والبعض الآخر كان مختلفاً معها، ولكل فريقٍ حججه العلمية التي يستند إليها. ولم يقتصر الأمر على علماء الكيمياء فحسب، بل إنّ الفلاسفة أيضاً كان لهم رأيٌ في الموضوع، وفي حين أنّ ردود العلماء على طرح هوند كانت علمية بشكلٍ بحت، كانت آراء الفلاسفة فلسفية في المقابل، فقد رأى بعضهم أنّ الجدال ينتهي إذا اعتُمد تفسير موحد لميكانيكا الكم، في حين يرى آخرون أنّ المشكلة نابعة من أطروحة هوند وطريقة قراءتها.
مشكلة أخرى تواجهها الكيمياء تتعلق بتعريف "الرابطة الإلكترونية"، إذ تعتبر واحدة من أكثر المفاهيم العلمية نجاحاً، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ كثرة تعريفاتها وتمثيلاتها وتوصيفاتها جعلت من الصعب تحديد طبيعتها بشكلٍ دقيق، ما أثار اهتمام الفلاسفة بها. يقول البعض إنّ المشكلة ترجع إلى حقيقة أنَّ العلماء يفهمون معنى الرابطة الكيميائية ضمنياً بطرقٍ مختلفة، وأحياناً تُفهم على أنّها شيءٌ مادي - ملموس - بين أزواج من الذرات التي يتكوّن منها الجزيء، إلّا أنّها قد لا تشير بالضرورةِ إلى شيء ملموس، كما هي الحال مع الذرات والإلكترونات.
لفترةٍ طويلة، كانت فلسفة الفيزياء هي المسيطرة على مجال فلسفة العلوم، إلّا أنَّ التزايد المستمر للمسائل الفلسفية التي تنشأ من الكيمياء لاقى اهتماماً متزايداً في المقابل من مجتمع الفلاسفة، ليظهر فرعٌ علمي فلسفي ناشئ ومتزايد أطلق عليه "فلسفة الكيمياء" التي تهتم بالقضايا المفاهيمية، استناداً إلى التفسيرات الفلسفية.
يحلل الفلاسفة وجهات النظر المختلفة حول القضايا العلمية الكيميائية، وتأثيراتها على فهم هذه القضايا، كما يسلطون الضوء على القضايا التاريخية ذات الصلة للمساعدة في توضيح طبيعتها. ومن اللافت أنّ عمل الفلاسفة حول القضايا العلمية أظهر أنّ الكثير من المسائل العلمية تعتبر مسائلَ فلسفية بالأصل، فالغموض حول الرابطة الكيميائية هو بالأصل سؤال ميتافيزيقي حول ما هو موجود، وما هي طبيعته، وكيف يبدو شكله. لذلك، وعلى الرغمِ من أنّ للعلم الكلمة الأخيرة في حلّ قضاياه، إلّا أنَّ المعرفة بكيفية الإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقية في الفلسفة يمكنها أن تساعد في حلّ المسائل العلمية ذات الصلة.
يقول ألبرت إينشتاين: "تعطي المعرفة بالخلفية التاريخية والفلسفية نوعاً من الاستقلال عن التحيزات التي يعاني منها العلماء، هذا الاستقلال الذي تم إنشاؤه بواسطة المعرفة الفلسفية هو علامة التمييز بين من هو مجرد حرفي أو متخصص والباحث الحقيقي عن الحقيقة". وعند الحديث عن دورِ الفلسفة في علاج المشاكل التي يواجهها العلماء، تجدر الإشارة إلى أنّ التحليل الفلسفي للمشكلات العلمية ليس نشاطاً للفلاسفة حصراً، بل يمتد إلى الكيميائيين أيضاً، فأدواتهم وأساليبهم في تقييم النماذج والنظريات والفرضيات العلمية هي - إلى حدّ كبير - أدوات الفلاسفة أيضاً، بما في ذلك التحليل المنطقي للحجج والفحص الدقيق للمفاهيم العلمية ومعانيها، بالإضافةِ إلى التقييم النقدي للتقديرات والنتائج العلمية أيضاً، وليس ذلك فحسب، فحتى عندما لا تشترك الفلسفة في علاج المسائل الكيميائية، فإنّ الكيميائيين أنفسهم يفعلون ذلك بشكلٍ ضمني أو صريح، إذ يستخدمون الأفكار والأساليب الفلسفية لكسب فهم أوسع للمشكلات التي يواجهونها.
التبادل بين العلم والفلسفة مفيدٌ، ليس فقط للفلاسفة المهتمين بمتابعة الأسئلة حول العلم، لكن أيضاً للعلماءِ الذين يعالجون المشكلات العلمية المعقدة، فعلى الرغم من أنَّ العلم يسعى إلى معرفة يقينية للبشرية، فإنَّ الفلسفة واحدة من أدواته في بلوغ هذا اليقين.