يعود الغناء الديني في اليمن إلى العصر القديم، عندما كان جزءاً عرفياً من العبادات في الحضارات القديمة. لكنه مرّ بتغيرات عديدة، سواء على صعيد الطقس أو الأسلوب اللحني العام، مع انتقال اليمنيين من الديانات الوثنية إلى السماوية. فاقتصرت في مضمون إسلامي يتوثق فيه اللحن بالدين، من خلال طقوس مناسباتية اجتماعية، كما هو حال المجتمعات الإسلامية.
وما وصل إلينا من ممارسات دينية قديمة، شحيح، ويقتصر على أدعية أو تقديم قرابين، بخلاف أنشودتين، عُثر على واحدة منهما في معبد أوام في مأرب، وفك رموزها الشاعر والمؤرخ اليمني مطهر الإرياني.
تؤكد هذه الأنشودة وجود ممارسات دينية على صلة بالغناء، قديمة وشائعة لدى اليمنيين. وكرست ممارستها إسلامياً موروثاً غنائياً يعتز به اليمنيون. ويُعزز لكل مناسبة دينية أجواء روحانية، وجمالية، يشكل فيها النشيد الديني مركزاً اجتماعياً، ويضفي على الوقت ذكراً ملحوناً وخشوعاً من الغناء.
في اليمن يؤدى النشيد الديني بأسلوبين شائعين، أحدهما موقّع يرافقه الإيقاع، وآخر مُرسل. والأخير يسود غالباً في صنعاء وما حولها، بينما الموقع اتصل بالمناطق الأخرى، حيث شاعت الطرق الصوفية. ولا نغفل عن حضور ألحان مشتركة عديدة تتغنى بها المناطق اليمنية أيضاً، على اختلافها. هنا، محاولة لإلقاء الضوء على هذا الموروث الديني، عبر عدد من أهم الموشحات الدينية اليمنية وأفضلها.
عالم السر منا
هذا الموشح الديني مرتبط بأحد أهم أعلام الغناء الديني اليمني، جابر رزق؛ إذ صاغه شعراً ولحناً بحسب ما هو معروف. وبصورة عامة، يتفرد هذا اللحن عن غيره من الموشحات الدينية اليمنية، بمزيج من التطريب والترنيم، وكذلك الغناء والإنشاد.
ولأن رزق هو من نظم الموشح، منحه سياقاً عاماً يتناوب فيه المؤدي والجوقة، على غرار مذهب وغصن؛ وإن كان البناء الشعري العام موشحاً. هكذا، نجد الجزء الأول الذي مطلعه "عالم السر منا" يتكون من فقرتين متوافقتين؛ بيت من ثلاثة أشطار وتوشيحة، وقفلة من شطرين، تؤدى بذات اللحن الذي يبدو تعديلاً على اللحن في مطلع الغناء، كما لو كان الأمر يفضي إلى أسلوب دائري.
لكنه في الأقسام الأخرى، يعدل في البناء الشعري، فيكون هناك بيت وتوشيحة، وبيتان من ثلاثة أشطار، ليمتد غناء التوشيحة في آخر الغصن على شطرين من آخر بيت، بينما الشطر الأخير يغنيه المؤدي، وتجاوبه المجموعة لتعود منه لغناء المذهب، بوصفه نوعاً طفيفاً من المجاوبة، تتسلم منه المجموعة غناء المذهب.
الواحد الأحد
يمتاز هذا الموشح بأسلوب ترنيمي وميولودية غير مألوفة في التراث اليمني. وهو من الموشحات المعروفة، وتُردد على نطاق واسع في صنعاء، لكنه أيضاً شائع لدى المتصوفة في حضرموت. وعلى الأرجح عرفته اليمن كلحن عبر المتصوفة.
ولا نعرف ما إن كان نتاج تأثر بثقافات موسيقية مجاورة. ربما حمله المتصوفة في اليمن لإثراء مجالسهم وجداً بالإله عبر اللحن. وكما يتضمن الغناء الديني اليمني، خصوصاً في صنعاء، عناصر الأجنبية. فهناك موشح معروف هو "رب بالسبع المثاني" منحول من لحن مارش تركي معروف اسمه "بلفنا مارش" أو "عثمان مارش". ونقله اليمنيون في أثناء الاحتلال التركي الثاني للبلاد.
الموشح على مقام بيات الحسيني، ويتسم بلحنية شجية، وغنائية تتقاطع مع الغناء الشرقي. وهذا الترنيم يحدث مزاجاً غنائياً روحانياً، أي إن اللحنية تعبير عن انغماس وجداني في الروح الإلهية. ولحن الموشح يبدأ ترنيماً غنائياً، لينتقل في قسمه الثاني إلى لحن أشبه بالتراتيل اليمنية.
مالي ومالك يا دنيا ملكتيني
ابتهال تهامي، يتسم بطابع لحني مُرسل بلحن بسيط ذي منحى تطريبي، يمتزج فيه الموال مع الترتيل المُنغم. يستحضر فيه الدنيا المغرية، متسائلاً عن المكان الذي انتهى به الملوك، بما في ذلك مواقف من التراث الديني. ويثير العبر بفناء الموت، الذي يتوجب توجيه الذُّل والسؤال لله وحسب. يدعو الابتهال إلى دنيا يحضر فيها الدين.
يُجسد الابتهال بعداً صوفياً، برغم لحنه البسيط الأقرب للترتيل، موجهاً المديح لجنون وجهه حب الذات الإلهية. ينتمي هذا الابتهال إلى التصوف المعروف في منطقة تهامة اليمنية الواقعة على البحر الأحمر. وتُعرف تهامة بأنها واحدة من مراكز التصوف في اليمن.
سلام سلام كمسك الختام
ما زالت حضرموت تشكل مصدراً للإلهام الصوفي في محيطها، وتحديداً في الحجاز في الوقت الحالي. وهي مركز للتصوف في اليمن إلى جانب تهامة. وسنأخذ صيغة لحنية دينية تنتمي إلى النشيد. وكما هو واضح، يظهر على لحنه الأثر الموسيقي الهندي، فالاتصال عبر البحر العربي بين حضرموت الواقعة في الجهة الشرقية من اليمن والهند، لم تقتصر على التجارة والهجرة، إنما جلبت معها تقاطع جمالي للغناء الصوفي.
وكان هذا النشيد على مقام الكُرد. وهذا الموشح تجسيد للتأثر بالموسيقى الهندية، حيث كانت حضرموت محطة في شرق اليمن أكثر اتصالاً بالهند عبر بحر العرب.
الصبر حصن الفتى والسور
موشح صنعاني، على مقام البيات، يُجسد عُرفاً في كثير من التواشيح الدينية اليمنية؛ أخذ العبر من الماضي، حيث بادت فيه ممالك. وهكذا يصل إلى تأكيد مطلع الإنشاد الديني بأن الصبر حصن المؤمن على قضاء الله، هو صاحب المُلك الذي يلوذ به المؤمنون.
يتسم اللحن بمطلع ترنيمي، يتخذ تصعيداً لينتقل إلى شكل من التراتيل الملحونة القريبة من أداء التسابيح في الأناشيد الدينية اليمنية. أي إنه تقاطع بين الترنيم اللحني والترتيل الإلقائي.
الكوكب الدُّري
يمتاز هذا النشيد بحركة ونشاط، على غرار ما هو معروف بالألحان الصوفية المُرتبطة بمدينة تعز. وهو عبارة عن مذهب تردده المجموعة، وأغصان ينشدها المؤدي، بلحنين مختلفين على مقام البيات. ويصبغه طابع حماسة روحانية، وهذا ما تعتمد بعض الألحان الصوفية في جلساتها التي تتنوع بين الإلقاء والترنيم والإنشاد.
تعود كلمات النشيد الديني اليمني إلى واحد من أشهر أعلام الصوفية في اليمن، أحمد بن علوان. وبخلاف ما يُشاع عنه من كرامات، يُعد مرجعاً للصوفية في اليمن، عاش في القرن الثالث عشر الميلادي في ريف تعز، وكان على اتصال بملوك الدولة الرسولية.
الله الله ربنا
تشكيلة من الموشحات المعروفة في مناطق وسط اليمن وجنوبه. يبدأ بموشح الله الله ربنا، وتمتاز ألحانه ببساطة تسمح للمجتمعين من العوام بالترديد كجوقة في حضرة الأناشيد الصوفية.
ويعود تسجيل لتشكيلة من الموشحات والابتهالات الصوفية إلى التسعينيات، باستخدام محدود للموسيقى عبر الكيبورد، إضافة إلى الإيقاعات المعروف استخدامها في الجلسات الصوفية. وفي التسجيل، تتابع الموشحات بذات الترتيب الشائع تقريباً لأدائها في المجالس الصوفية، التي بدورها انتقلت إلى مجالس العوام.
وتمتاز هذي الأناشيد بحركة سريعة، يصاحبها إيقاع ثنائي، وهي: الله الله ربنا، ويا نبي سلام عليك، وربي صل على النبي التهامي، ومرحباً ببدر التمام. وهي معروفة على نطاق واسع في منطقة تعز وإب، ويتم ترديدها في المناسبات الدينية والجلسات الصوفية وفق ذلك الترتيب.
الزمزمة
من أشهر الأناشيد الحضرمية الصوفية، ويتناوب فيه غناء المؤدي بصيغة أقرب إلى الموال المترنم، والذي يتسم بطابع الدان الحضرمي، وهو الغناء الشعبي هناك. ويمتاز بتلوين في أداء المُنشد، بينما تقتصر المجموعة على أداء إلقائي بالصلاة على النبي. ويستمر تلوين المؤدي في تصعيد ينتهي بتسليمة للجوقة التي يتسع دورها كخاتمة للصلاة على النبي، في ترديد الصلاة على النبي بإلقاء أكثر لحنية وترنيماً.