العيش بلا حقيقة

22 يوليو 2022
يكبر الشرخ بين متبنّي الحقائق المتفق عليها ومتبنّي الحقائق البديلة (هولي آدامز/ Getty)
+ الخط -

في الأسئلة الوجودية عن الحقيقة والموضوعية والحياد، أحبّ أن أستخدم مثال القطعة النقدية. أطلب من شخصين الوقوف وجهاً لوجه وأضع القطعة النقدية بينهما وأطلب من كلٍّ منهما أن يصف بدقّة كلّ ما يراه. واحدٌ يتحدّث دائماً عن صورة والآخر يتحدّث عن رقم. يجدان حقائق مشتركة مثل لون المعدن، وربّما بلد صكّ العملة، لكن يختلفان في الأساس. واحدٌ يرى صورة والآخر يرى رقماً. ثم أسأل السؤال: من منهما يكذب؟ ولا أحد يكذب. كلٌّ يصدق في نقل ما يراه. وفي الحالتين هما حقيقتان صحيحتان. وهنا تأتي الموضوعية الصحافية، فالصحافي يعرف أنّه لن يتمّ مهمّته إذا بقي واقفاً ينقل من جانبٍ واحد ومن زاويةٍ واحدة، فيعمل بأيّ طريقة ممكنة للوصول إلى المعلومات حول الجانب الآخر، كي لا يروي حقيقةً واحدة، بل أقرب ما يكون للحقيقة الكاملة. أمّا الحياد في مثال القطعة النقدية فيكون بعدم تغليب رأيه الشخصي في القطعة، حتّى لو وجد جانب الصورة أجمل من جانب الرقم كأغلب البشر، لا يحقّ له التعبير عن ذلك. يحقّ له طرح الأسئلة، نقل آراء الآخرين، لكنّ الحياد هو تحييد رأيه الشخصي.

أفكّر بمعضلة الحقيقة، بعد أن أخبرتني جدّة ابني في فرنسا أنّنا جميعنا، أي مجمع الصحافيين، عملاء للأنظمة وننقل أكاذيب. بعضنا بعلمه لكنّ أغلبنا من دون علمه، مغسولي الدماغ، بحسب قولها. أحبّ أنّها ما زالت تأتمنني على أفكارها بعد عامين من دخولها عالم "جماعة نظريات المؤامرة"، كما يجرى وصفهم حالياً من قبل الصحافة الغربية. لكن يقلقني ما تكشفه لي عن عالمها الجديد.

جدّة ابني تدفع شهرياً ما يعادل مئتي يورو، وهو مبلغ كبير نسبياً بالنظر لحجم معاشها التقاعدي، لشركة محاماة تقنعها هي وأمثالها بأنّها تجهّز ملفاً لمحاكمة كلّ زعماء العالم بتهمة غسيل دماغ الشعوب. وترسل هذه الشركة توصيات يومية لمشاهدة برامج يوتيوب ولمتابعة مقالات ومواقع أغلبها يحمل أسماء من نوع "الحقيقة الكاملة"، "360 درجة"، "الجانب المظلم"، و"الحقيقة المخفية".

موقف
التحديثات الحية

هذه السيّدة السبعينية بالكاد تتكلّم مع أبنائها اليوم، لأنّها تصفهم بالميؤوس منهم، تلتقي بهم في الأعياد باقتضاب شديد ثم تعود إلى شاشتها وهاتفها تستمع بالساعات لغرباء يخبرونها أنّ كلّ ما عاشته كان كذبة كبيرة. لم يصل الإنسان إلى القمر. لا يوجَد سلاح نووي، بل هو أداة وهمية يستخدمونها لتخويف الشعوب. لا توجد حرب في سورية، بل هي "فوتوشوب" كي يكتسح المسلمون والعرب أوروبا عبر باب اللجوء. وطبعاً الوباء أكبر كذبة اخترعوها لنجلس في بيوتنا ويعيدوا برمجة العالم ليراقبوننا أكثر. كلّ هذا بحسب المواقع التي تتابعها وتصدّقها.

في الغرب، وجد البعض طريقة للاستفادة من شغف الناس بهذه "الحقائق البديلة"، مثل شركة المحاماة أعلاه أو صناع المحتوى على "يوتيوب" ومنصات أخرى. وفي عالمنا العربي أيضاً. ربّما لا يمكن بعد لشركة الحصول على اشتراكات شهرية بحكم قدراتنا المادية الأقلّ، لكنّ المحتوى المجاني الموجود على "يوتيوب" يحصد لصنّاعه مداخيل كافية. موسيقى درامية، وخلفية سوداء، ومجموعة صور، وأحياناً حتّى من دون وجه المعدّ، فقط بالصوت، يخبرك عن المؤامرة الكونية علينا، والأكاذيب الكبرى التي صدّقناها. والأهمّ أنّ جميعهم، شرقاً وغرباً، يحرصون بدايةً على نسف مصداقية الصحافيين والتخويف من الصحافة التقليدية.

يكبر الشرخ بين من يتبنّى حقائق بديلة وبين من يمضي بالحقائق المتعارف عليها. كشرخ جدّة ابني مع أولادها، ومحاولاتها إنقاذ حفيدها بتلقينه معرفتها الجديدة. كيف سنلتقي وأين؟ لا أعرف. لكنّني أشعر بالقلق. ماذا لو نسفنا كلّ الحقائق المتعارف عليها حتّى اليوم، وأعدنا البحث فيها كلّها؟ من سيحدّد مصداقية البحث؟ ولماذا نصدّقها إذا كنّا سنكذّب كلّ ما سبق؟ وهل نملك الوقت الكافي للتشكيك بمعارف متراكمة منذ آلاف السنين؟ وكيف نعرف أنّ ما نراه حقيقة في زمن التشكيك حتّى بنظرك؟ ومن سيتولّى هذه المهمةّ؟ الصحافة أم الأكاديميا؟ أليس هذا ما يقومان به أساساً؟ هل خسرا معركة الوعي أمام الخوارزميات؟ أم ما زال ممكناً العمل مع ملّاك عالم الإنترنت لمحاسبة ناشري الأكاذيب وتغليب المحتوى العلمي والدقيق على المحتوى الكاذب؟ وفي حال الحظر كما جرى في "تويتر"، ما الذي يحمي الناس من مواقع بديلة تغرقهم في عوالم بديلة؟

لا أملك الإجابة. خصوصاً أنّنا في هذا الجانب من العالم آخر من يؤخذ رأيه في عالم الإنترنت. لكنّنا نغرق فيه وفي أكاذيبه. وإذا استيقظ صنّاع القرار في الغرب لحماية مستخدميهم، فإنّ أنظمتنا سترى غالباً فوائد أكبر في إغراقنا في الحقائق البديلة بدلاً من انتشالنا إلى الواقع.

المساهمون